– قوله تعالى : { فبشرناه بغلام حليم ( 101 ) فلما بلغ معه السعي . . . . } إلى قوله تعالى : { وفديناه بذبح عظيم ( 107 ) } :
قصة إبراهيم مع ابنه الذبيح عليهما السلام حجة لأهل السنة في جواز نسخ الأمر قبل التمكن من الامتثال . قال فقد أمر بفعل واحد ولم يعص في البدار إلى امتثاله ثم نسخ عنه قبل إيقاعه . وأنكر المعتزلة جواز هذا النسخ {[10427]} واستعصت عليهم قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام حتى تعسفوا في تأويلها وتفرقوا فرقا وطلبوا الخلاص من خمسة أوجه :
أحدها : أن كان ذلك مناما لا أمرا . وهذا باطل لأن منام الأنبياء جزء من النبوة وكانوا يعرفون أمر الله تعالى به . فلقد كانت نبوة بعض الأنبياء بمجرد المنام . ويدل على كونه أمرا قول ولده : { افعل ما تؤمر } ولو لم يؤمر لكان كاذبا ولأنه لا يجوز قصد الذبح بمنام لا أصل له .
والثاني : أنه أمر لكن قصد به تكليفه العزم على الفعل لامتحان سره في صبره على العزم بالذبح ، ولو لم يكن مأمورا به . وهذا باطل لأن علام الغيوب لا يحتاج إلى الاختبار . وقولهم العزم هو الواجب محال لأن العزم على ما ليس بواجب لا يجب .
والثالث : أنه لم ينسخ الأمر لكن قلب الله عنقه نحاسا أو حديدا فلم ينقطع ، فانقطع التكليف بالتعذر . وهذا لا يصح على أصولهم لأن الأمر بالشرط لا يثبت عندهم بل إذا علم الله تعالى أنه انقلب عنقه حديدا فكيف يكون أمرا بما يعلم امتناعه .
والرابع : أن المأمور به إنما هو الاضجاع والتل للجبين وإمرار السكين دون حقيقة الذبح . وهذا محال إذ لا يسمى ذلك ذبحا ولا هو بلاء ولا يحتاج إلى فداء بعد الامتثال .
والخامس : جحود النسخ وأنه ذبح امتثالا فالتأم واندمل . والذاهبون إلى هذا التأويل اتفقوا على أن إسماعيل أو إسحاق على الخلاف في ذلك ليس بمذبوح . واختلفوا في كون إبراهيم ذابحا . فقال قوم هو ذابح للقطع والولد غير مذبوح لحصول الالتئام . وقال قوم لم يكن ذابحا ، لأن ذابح لا مذبوح لا محال . وهذا القول أيضا محال لأن الفداء كيف {[10428]} يحتاج إليه بعد الالتئام ولو صح ذلك لاشتهر ، ولم ينقل ذلك قط وإنما هو من اختراع القدرية . فإن قيل أليس قد قال : { قد صدقت الرؤيا } فالتصديق غير التحقيق والعمل . ولأهل السنة مما يحتجون به في مذهبهم غير هذه الآية . من ذلك ما جاء من فرض الصلاة أنها كانت خمسين ثم نقلت إلى خمس قبل أن يعمل بها . ومنها قوله تعالى : { إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة } [ المجادلة : 12 ] ثم قال تعالى : { فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم } [ المجادلة : 13 ] فنسخ قبل الفعل . ومنها قوله تعالى : { الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا } [ الأنفال : 66 ] فنسخ قبل الفعل . وموضع هذه المسألة/ إنما هو كتب الأصول لا كتب الفروع . وقد ضعف بعض شيوخنا كلام المعتزلة وأهل السنة في هذه المسألة وزعم أنه لا يدخلها نسخ قبل الامتثال ، ولا تحتاج المعتزلة إلى الاعتذار . قال لأن الذبح إنما كان برؤيا وللرؤيا أسماء وكنى ، وإنما تحمل على الأسماء حتى يدل الدليل على الكنى كما تحمل الأحكام على ظاهر الأمر والنهي حتى يدل الدليل على التأويل . فلما رأى إبراهيم عليه السلام في المنام أنه يذبح ولده – ورؤيا الأنبياء وحي – بادر إلى الأخذ بالظاهر وشرع في امتثال هذا الأمر . فلما فعل ذلك أوحى الله تعالى إليه أن : { قد صدقت الرؤيا } وفدي الابن بذبح أي بكبش إذ كان ذبح الابن عند الله تعالى كناية عن ذبح الكبش . فليس في الآيتين على هذا نسخ وإنما فيها التبيين للرؤيا وأن المراد بذبح الابن ذبح الكبش ، فكنى عن الكبش بالابن وصار بعد ذلك الذبح سنة إلى يوم القيامة . ولما كان الذبيح{[10429]} إسماعيل صلى الله عليه وسلم فعل {[10430]} ذلك بنوه من لدنه إلى وقتنا هذا ، ولو كان الذبيح إسحاق ما ترك اليهود الذبح في يوم النحر بوجه ولو على حال . وقد احتج قوم من العلماء بهذه الآية في مصيرهم إلى أن من نذر ذبح ولده لزمه ذبح شاة . وأنكر غيرهم هذا الاستدلال ورأوا أن نذر ذبح الولد معصية فلا يكون فيه فداء بخلاف ذبح إبراهيم لولده فإنه كان ممتثلا لأمر الله تعالى فيه ، ثم فداه الله تعالى بالذبح تفضلا منه ، والفرق بين .