43 - قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } الآية :
سبب النهي عن قرب الصلاة في حال السكر أن جماعة من الصحابة شربوا{[4026]} الخمر عند أحدهم قبل التحريم ، منهم أبو بكر وعمر وعلي وعبد الرحمان ابن عوف ، فحضرت الصلاة فتقدمهم علي فقرأ : { قل يا أيها الكافرون 1 } [ الكافرون : 1 ] ، مخلطا{[4027]} فيها بأن قال : { أعبد ما تعبدون وأنتم عابدون ما أعبد } . وروي أن المصلي عبد الرحمان بن عوف ، وقد اختلفوا{[4028]} في هذه الآية هل هي محكمة أو منسوخة ؟ فالذين ذهبوا{[4029]} إلى أنها محكمة اختلفوا في التأويل ، فقالت طائفة معنى قوله : { وأنتم سكارى } أي سكارى{[4030]} من النوم لا من الخمر ، وقال عبيدة السلماني{[4031]} : هو الحاقن كقوله عليه الصلاة والسلام{[4032]} : " لا يصلين أحدكم وهو يدافع الأخبثين " {[4033]} .
وقيل : ليس المراد هنا العبادة المعلومة وإنما المراد بها مواضع{[4034]} الصلاة وهي المساجد ، والتقدير : لا تقربوا مواضع{[4035]} الصلاة ثم حذف ، كقوله تعالى : { واسأل القرية } [ يوسف : 82 ] ، وروي هذا عن ابن عباس أيضا ، وإليه ذهب الشافعي وأصحابه . والأكثر كما قدمنا على أن المراد به الصلاة ، وهو قول أبي حنيفة . ومقتضى هذا القول تنزيه المساجد عما يتوقع من السكران من فحش المنطق وتلويث المسجد ، ويقاس على هذا السباب فيها والدخول بالروائح المنتنة أو{[4036]} بالنجاسات{[4037]} . ومن ذلك إنشاد الشعر فيها{[4038]} ، وقد اختلف فيه . والأظهر جوازه إلا ما كان فيه فحش . وكذلك رفع الأصوات فيها بغير ذكر الله تعالى{[4039]} ، وقد اختلف فيه أيضا . وقد قال عمر{[4040]} : من أراد أن يغلظ أو ينشد شعرا فليخرج إلى هذه الرحبة . وكذلك النوم{[4041]} فيها{[4042]} مختلف فيه ، والأظهر جوازه لما ورد من الآثار في ذلك . واختلف فيمن رأى في المسجد في ثوبه دما كثير هل له أن يخلعه{[4043]} فيه على قولين ، أحدهما : أنه يجب أن يخرج ولا يخلعه فيه . والثاني : أنه يجوز له أن يخلعه ويضعه بين يديه ويغطيه ، وقيل : المعنى/ لا يكن منكم سكر فيقع قرب الصلاة ؛ إذ المرء مدعو إلى الصلاة .
وهذا القول بأنها محكمة إنما يصح على القول ببطلان دليل الخطاب ، إذ دليل خطاب{[4044]} الآية على هذا القول إباحة ما دون السكر أو{[4045]} السكر في غير الصلاة .
والذين ذهبوا إلى أنها منسوخة اختلفوا ، فمنهم{[4046]} من قال بدليل خطابها ، ورأى أن{[4047]} الآية نزلت قبل التحريم ، فاقتضت عنده تحريم السكر في الصلاة خاصة ، فرآها منسوخة بآية التحريم ، وهي قوله{[4048]} تعالى : { إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام } [ المائدة : 90 ] ، وهو مروي عن قتادة ومجاهد . ومنهم من رأى أن الآية إنما اقتضت النهي عن الصلاة في حال السكر ، ثم ورد الأمر بالصلاة على كل حال ، فإن كانوا لا يعقلون ما يقرأون وما يفعلون ، فعليهم الإعادة وإن كانوا يعقلون ذلك فعليهم أن يصلوا ، وهذا قبل التحريم . فأما{[4049]} بعد التحريم ، فيجب أن لا يفعلوا ذلك ، أعني{[4050]} الشرب ، فإن فعلوا فقد أساؤوا الحكم في الصلاة ، وأخذوا الآية التي وردت بالأمر بالصلاة على كل حال{[4051]} قوله تعالى : { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا } [ المائدة : 6 ] الآية ، وهذا قول ابن عباس . وفي هذه الأقوال كلها نظر . أما النسخ فيها ، فلا يتحقق ، لأنه مهما أمكن نفي التعارض بين الآيتين لم يصح نسخ .
أما النسخ بتحريم الخمر ، فمبني على القول بدليل الخطاب ، وللناظر أن يقول : إنما حرم السكر في حالة الصلاة ، ثم أكد التحريم فيها بأن صرح بتحريمه في الصلاة وفي غير الصلاة ، فالتحريم المطلق قوى التحريم{[4052]} المخصوص ولم ينسخه . وأما القول بأن الأمر بالصلاة على كل حال فلأصحاب مالك ، وهو قول الشافعي . وقالت طائفة : لا يصلون حتى يجدوا الأرض من السماء فلا خلاف أنه {[4053]} كالمجنون ، إلا فيما ذهب وقته من الصلوات فلا يسقط عنه ، لأنه هو الذي{[4054]} أدخل السكر على نفسه بخلاف المجنون{[4055]} والمغمى عليه .
قوله تعالى : { ولا جنبا إلا عابري سبيل } :
واختلف في الجنب من هو ؟ فقال الجمهور ، هو غير الطاهر من إنزال أو مجاوزة ، ختان من غير إنزال ، لأن المجانبة في اللغة ترجع إلى البعد والمفارقة ، وهي كناية على الوطء ، فالرجل إذا جامع ثم فارق فقد حصلت المفارقة سواء أنزل أو لم ينزل ، وهو كقوله عليه الصلاة والسلام : " الكذب مجانب{[4056]} للإيمان " {[4057]} أي مفارق ، وذهب داود وبعض الصحابة{[4058]} إلى أن الجنب لا يكون إلا من إنزال ، ولم يوجبوا الغسل إلا على ذلك . ودليل أهل القول الأول{[4059]} مع ما ذكرناه قول النبي صلى الله عليه وسلم{[4060]} : " إذا التقى الختانان فقد وجب{[4061]} الغسل أنزل أو لم ينزل " .
وقوله : { إلا عابري سبيل } :
اختلف في عابر السبيل من هو ؟ فقيل هو المسافر ، قالوا : فلا يصح لأحد أن يقرب الصلاة وهو جنب إلا بعد اغتسال إلا المسافر ، فإنه يتيمم وهو قول علي وابن عباس وغيرهما . وهذا قول مبني على القول بأن الصلاة من قوله {[4062]} : { ولا تقربوا الصلاة } المراد بها العبادة . وقيل : هو المجتاز مسافرا كان أم غير مسافر{[4063]} وهذا القول مبني على أن الصلاة فيما تقدم أريد بها موسع الصلاة . وعلى هذا يترتب الخلاف في الجنب يمر في المسجد أو{[4064]} يقعد فيه ، فقيل : إنه يمر فيه ويقعد ، وهو قول داود ، قال : وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلسون وهم جنبا في المسجد ، وجعلوا القعود كالمرور . وقال بعضهم : يجلس فيه ويمر إذا توضأ ، وهو قول ابن حنبل . وقال قوم : لا يجلس فيه ولا يمر وهو قول الكوفيين وأشهر قولي{[4065]} مالك ، وروي عن ابن عباس وغيره : إن لم يجد بدا تيمم ومر فيه ولا يقعد ، وهو قول الثوري وإسحاق . وأما القول الأول فضعيف ومخالف لظاهر {[4066]} الآية ، لأن الله تعالى نهى عن القرب من موضع الصلاة جنبا ، ثم أباح للجنب إذا كان عابر سبيل أن يعبره{[4067]} فمن أباح القعود فيه فقد أجاز ما نهى الله تعالى{[4068]}عنه . والقول الثاني مثله في الضعف بل أضعف . وأما القول الثالث وهو أشهر قولي مالك ، فصحيح وليس في الآية ما يرده ، لأن الآية على هذا القول إنما هي في المسافر الجنب إذا حضر الصلاة كما قدمنا : فليس فيها إباحة شيء من ذلك . ويؤيد هذا القول حديث عائشة قالت : جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد ، فقال : " وجهوا هذه{[4069]} البيوت عن المسجد " {[4070]} ثم دخل ولم يصنع القوم شيئا رجاء أن ينزل لهم رخصة ، فخرج إليهم بعد فقال : " وجهوا هذه البيوت فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب " قالوا : فأمر النبي صلى الله عليه وسلم{[4071]} بهذا صيانة للمسجد{[4072]} عن اجتياز الجنب . وأما القول الرابع وهو أحد قولي مالك ، فمحمول على أن الآية في غير المسافر ، وأن المراد بالصلاة المسجد ، وبعابر السبيل المجتاز فيه ، وهو أحد قولي زيد ابن أسلم . وأما القول الخامس في الآية فضعيف ؛ إذ فيه التيمم والله تعالى لم يذكر التيمم ، فالظاهر إباحة ذلك لعابر السبيل متيمما كان أو غير متيمم ، ومما يؤيد أن الصلاة المراد بها موضع الصلاة ، وأن عابر السبيل هو{[4073]} المار في المسجد ما روى بعضهم من أن سبب الآية أن قوما من الأنصار كانت أبواب دورهم{[4074]} شارعة في المسجد ، فإذا أصابت أحدهم الجنابة اضطر إلى المرور في المسجد فنزلت الآية في ذلك .
قوله تعالى : { حتى تغسلوا } :
اختلف في صفة الغسل التي عنى الله تعالى في هذه الآية ، فقالت طائفة : يجزئ الجنب الانغماس في الماء دون إمرار اليد على الجسم ، وهو قول الشافعي وابن عبد الحكم وأبي الفرج ، وإحدى الروايتين عن مالك . وقالت طائفة : لا يجزئ الغسل حتى يمر يديه على جسده كله وهذا أشهر قولي مالك : وحجة القول الأول{[4075]} أن كل من صب الماء فقد اغتسل ، لقول العرب : غسلتني السماء . ولا مدخل فيه لإمرار اليد ، وحجة أهل القول الثاني : أن الغسل يتضمن زيادة على إيصال الماء إلى المحل ، وليس ذلك إلا إمرار اليد ، لأن أهل اللغة فرقوا بين الغمس والغسل ، فيقولون : انغماس واغتسال ، فدل على اختلاف حكمهما ، ولقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة : " وادلكي جسدك بيديك " {[4076]} . واختلف في الجنب يحدث هل عليه وضوء أم لا ؟ فالجمهور على أن لا وضوء عليه ، وذهب الشافعي في بعض أقواله إلى أن عليه الوضوء ودليل القول الأول قوله تعالى : { حتى تغتسلوا } فلم يوجب غير الغسل . والحدث الأصغر يدخل في الأكبر ، وكذلك لا يجب مع الغسل وضوء لظاهر الآية ، وأي وضوء أعم من الغسل كما قال ابن عمر رضي الله / تعالى عنهما .
قوله تعالى : { وإن كنتم مرضى أو على سفر } الآية :
واختلف في سببها ، فقيل : سببها عدم الصحابة للماء في غزوة المريسيع حين قام النبي صلى الله عليه وسلم على التماس العقد . وقيل : نزلت في قوم أصابتهم جراح ثم أجنبوا فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فنزلت الآية . وذكر بعضهم أن ذلك نزل لعبد الرحمان ابن عوف . واختلف في المرض الذي شرط{[4077]} الله تعالى جواز التيمم فيه{[4078]} فأخذ بعضهم بظاهر الآية ، هو داود ومن تابعه ، فقال{[4079]} ، كل ما انطلق عليه اسم مريض فجائز له التيمم . وقال الشافعي في أشهر قوله : هو المرض الذي يخاف فيه التلف باستعمال الماء . وقد روي عن مالك مثل هذا . وقال مالك : في أشهر قوله{[4080]} : هو المرض الذي يخاف فيه التلف أو الزيادة أو البطء في استعمال الماء . قال القابسي : مثل أن يخاف{[4081]} أن تصيبه نزلة أو حمى وقد روي عن الشافعي مثل هذا . واختلف في السفر الذي يباح فيه التيمم ، فقال الجمهور : هو الغيبة عن الحضر ، كان السفر مما تقصر فيه الصلاة أو لا تقصر أخذا بظاهر لفظ السفر في الآية ؛ لأنه لم يخص سفرا طويلا من قصير . وذهب قوم{[4082]} إلى أنه لا يتيمم إلا في سفر تقصر في مثله الصلاة ، ويجوز فيه القصر . ورأوا أن السفر في الآية على ذلك يقع ، واختلف في سفر المعصية هل يجوز فيه التيمم أم لا ؟ فذهبت فرقة إلى منعه والأكثر على جوازه لعموم الآية .
قوله تعالى : { أو جاء أحد منكم من الغائط } :
في " أو " هنا تأويلان أحدهما : أنها على بابها من أن تكون لأحد الشيئين . والثاني : أنها بمعنى " الواو " وعلى هذين التأويلين ينبني اختلاف العلماء في المريض الواجد للماء والحاضر العادم للماء ، هل هما من أهل التيمم أم لا ؟ فمن أبقى " أو " على بابها رآهما من أهل التيمم ، وقال : إن{[4083]} معنى الآية وإن كنتم مرضى{[4084]} لا تقدرون على مس الماء ، أو على من يناولكم إياه ، لأن المرض يتعذر معه الوصول إلى الماء أو مسه في أكثر الأحوال ، فاكتفى تعالى بذكر المرض{[4085]} ، وفهم المراد كما {[4086]} فهم من قوله تعالى : { فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر } [ البقرة : 184 ] أن{[4087]} معناه : فاضطر{[4088]} . وكذلك قوله : { أو على سفر } يريد غير واجد للماء ، فاكتفى بذكر السفر ، وفهم المراد منه لأن السفر يعدم الماء فيه في أكثر الأحوال .
ثم قال تعالى : { أو جاء أحد منكم من الغائط أو لمستم النساء } الآية ، يريد بذلك الحاضر الصحيح . ولما كان الغالب في الحضر وجود الماء صرح بشرط عدمه{[4089]} فقال : { فلم تجدوا ماء } ، ومن رأى " أو " {[4090]} في الآية بمعنى " الواو " ولم يرهما من أصل التيمم ؛ لأنه يعيد{[4091]} قوله{[4092]} : { أو جاء أحد منكم من الغائط أو لمستم النساء } على المرض والسفر ، وكذلك يعيد{[4093]} قوله : { فلم تجدوا ماء } عليها أيضا . قال بعض من ذهب إلى هذا التأويل : هذا أولى ، لأن ظاهر الآية إن لم يحمل على ذلك توهم{[4094]} أن المرض والسفر حدث يوجب الوضوء كالمجيء من الغائط ، وذلك لا يصح بإجماع . ورجح بعض المتأخرين هذا القول وهو قول محمد ابن مسلمة من أصحاب مالك{[4095]} وقوله تعالى : { من الغائط } كناية على الحدث الخارج من المخرجين : الريح والبول والعذرة{[4096]} كذا قال/ بعضهم ، فالوضوء على هذا فرض من البول والريح بالقرآن في قوله تعالى : { أو جاء أحد منكم من الغائط } ؛ لأن من ذهب إلى الغائط وهو المكان المطمئن من الأرض تكون منه هذه الأحداث الثلاثة . وقال محمد ابن سحنون : الوضوء من البول والريح سنة{[4097]} يريد أنه فرض بالسنة مما تلقته الأمة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينزل فيه قرآن يتلى . قال بعض أصحاب مالك : وهذا هو الصحيح لوجهين اثنين ، أحدهما : أن العرب لم تكن تأتي الغائط للبول والريح ، فالصواب حمل الآية على ما كانت العرب تقصده هناك . والثاني : أن هذين لم تسميهما العرب بالغائط ، وألزموا ذلك الاسم ما سواهما . وإذا قلنا : إن الغائط ما يخرج من المخرجين فإنه ينقض الوضوء ، إلا أنه عند الشافعي وأبي حنيفة كل ما يخرج منهما نادرا كان{[4098]} أو معتادا ، وعند مالك ما يخرج منهما من المعتاد دون ما يخرج نادرا{[4099]} فلذلك لا ينتقض الوضوء عنده بالاستحاضة{[4100]} وسلس البول والمني والحجر والدود والدم ، خلافا لأبي حنيفة والشافعي . ومالك أشعر{[4101]} بتأويل الآية على مذهبه ، لأن الغائط إنما يقع على الحدثين المعتادين ، لأن العرب إنما كانت تأتي الغائط لذينك الحدثين{[4102]} . ولم تكن إذا أصابها دم أو سلس أو غير ذلك مما ذكرناه تأتي بسببه{[4103]} الغائط فيما عرف . وأما ما خرج من بدن الإنسان من الأنجاس من غير المخرجين كالقيء والفصد والرعاف والدمل فلا وضوء فيه عند الجمهور ، كما لا وضوء في الجشاء المتغير ؛ لأن ذلك ليس من الغائط في شيء ، والله تعالى إنما أمر بالوضوء من الغائط . وذهب أبو حنيفة إلى أن الوضوء واجب{[4104]} فيما سال من ذلك وكثر ، فإن لم يسل فلا وضوء فيه ، وهو قول ضعيف لما قدمناه .
وقوله تعالى : { أو لامستم النساء } :
وقرئ { أو لمستم } لفظ اللمس في اللغة مشترك ، يقع على الجماع وعلى جس اليد والقبلة والمباشرة ونحو ذلك وعلى حسب اشتراكه اختلف العلماء في المراد بملامسة النساء في هذه الآية ، فقيل : المراد بها جميع ما تقع عليه من جماع وقبل وجس وغير ذلك ، وهو قول مالك{[4105]} وأصحابه وعلى هذا تكون القبلة واللمس باليد وغيرهما مما سوى الجماع ناقضا جميعه الوضوء على تقسيم في المذهب . ويجب معه التيمم للصلاة{[4106]} إذا عدم الماء . ويكون الجنب من أهل التيمم ، وقيل : المراد بالملامسة هنا ما سوى الجماع مما ذكرناه ، وعلى هذا القول يخرج الجنب من أهل التيمم{[4107]} قالوا : ولا سبيل له{[4108]} إلى التيمم . وإنما يغتسل الجنب أو يدع الصلاة حتى يجد الماء ، وهو قول عمر وابن مسعود وغيرهما . وحكي عن ابن مسعود أنه رجع عن ذلك ويحتجون أيضا بقوله تعالى : { ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا } وبقوله تعالى : { وإن كنتم جنبا فاطهروا } [ المائدة : 6 ] ، وبعض من يقول : إن الملامسة هنا ما دون الجماع يوجب التيمم على الجنب بحديث عمار{[4109]} ، وعمران بن حصين{[4110]} ، ويكون ما سوى الجماع كما ذكرنا ناقضا للوضوء . وقيل : المراد بملامسة{[4111]} النساء هنا الجماع لا غير ، روي ذلك عن عمر أيضا{[4112]} وهو قول ابن عباس : وروي أن عبيد ابن عمير وابن جبير وعطاء اختلفوا في الملامسة ، فقال سعيد وعطاء : هي{[4113]} اللمس والغمز ، وقال عبيد ابن عمير : هي{[4114]} النكاح ، فخرج عليهم ابن عباس وهو كذلك فسألوه وأخبروه بما قالوا ، فقال : أخطأ الموليان وأصاب العربي{[4115]} هي{[4116]} الجماع ولكن الله تعالى يصف ويكني{[4117]} وهو محفوظ عن ابن عباس من وجوه كثيرة روي عنه{[4118]} أنه قال : ما أبالي قبلت امرأتي أو شممت ريحانة ، وإلى هذا ذهب أهل العراق وحجتهم ما روي عن عائشة من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبلها ثم يخرج إلى الصلاة فلا يتوضأ{[4119]} قالوا : وقوله تعالى : { أو لامستم النساء } فالملامسة من اثنين ، فلا تكون إلا الجماع . وعلى هذا القول يكون الجنب من أهل التيمم ويكون{[4120]} ما سوى الجماع لا ينقض الوضوء ، قال أبو حنيفة : إلا أن ينتشر . وقال محمد ابن الحسن : لا وضوء عليه وإن انتشر ، إلا أن يخرج منه مذي . وإذا قلنا بجواز التيمم للعادم الماء ، فهل يجري مجراه من وجد الماء من حاضر أو مسافر ولم يقدر على مسه ، لأنه يخالف التلف أو المرض أم لا ؟ فاختلف فيه فقيل : يجوز له التيمم إذا خاف مرضا أو تلفا وهو قول مالك وأبي حنيفة وغيرهما . وقيل : لا يجوز له التيمم إلا إن خاف التلف ، وهو قول الشافعي . وقال بعضهم : في الجنب يتوضأ ولا يتيمم إذا لم يقدر على مس الماء على ما روي عن عمرو بن العاص من أنه فعل ذلك في جيش ذات السلاسل قالوا : والوضوء فوق التيمم ، وليس ذلك بصحيح ، لأن الله تعالى جعل التيمم عوض الغسل من الجنابة ، ولم يجعل الوضوء بدلا منه فليس بأرفع منه وإنما هو أرفع منه في الحدث الأصغر ، حيث جعل بدلا . وقال بقول الشافعي المتقدم عطاء ، واحتج بظاهر{[4121]} قوله تعالى : { فلم يجدوا ماء } ، ودليل مالك وأصحابه قوله تعالى : { وما جعل عليكم في الدين من حرج } [ الحج : 78 ] وقوله : { ولا تقتلوا أنفسكم } [ النساء : 29 ] وقوله : { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } [ البقرة : 185 ] ، وقوله تعالى : { أو لمستم النساء } . وإذا قلنا : إن اللمس باليد والقبل والمباشرة داخل ذلك كله تحت الملامسة فلفظة النساء هنا عند مالك محمولة على عمومها{[4122]} في جميع النساء ، إلا أنه يراعي مع ذلك اللذة إلا في القبلة وسوى بعض أصحابه بين اللمس والقبلة في مراعاة اللذة . وعند الشافعي محمولة في أشهر قوليه على جميع النساء ، إلا أنه لم يشترط اللذة{[4123]} وفرق في أحد قوليه بين ذوات المحارم ، مثل الأم والبنت وبين غيرهن . واختلف أصحابه في لمس الصغيرة هل هو داخل تحت هذا العموم فينقض الوضوء أم لا{[4124]} ؟ واختلف في انتقاض وضوء الملموس . فقال الشافعي في أحد قوليه : ينتقض . وقال أبو حنيفة : لا ينتقض وراعى مالك{[4125]} اللذة في انتقاض وضوئه أخذا بعموم الملامسة ، لأن كل واحدا من الملامسين{[4126]} لامس وملموس .
وقوله تعالى : { فلم تجدوا ماء } :
هذا يفيد وجوب طلب الماء وهي مسألة اختلف{[4127]} فيها ، ذهب مالك{[4128]} إلى أنه لا يجوز التيمم إلا بعد طلب الماء وإعوازه ، وخالف في ذلك أبو حنيفة فلم ير الطلب واجبا{[4129]} . وحجة مالك{[4130]} الآية المذكورة ، والذين أوجبوا الطلب اختلفوا في مقداره . فقال ابن راهويه : لا يلزم المسافر الطلب إلا بين يديه وحوله . وقالت طائفة : يخرج في طلبه المرتين{[4131]} ونحوهما ، وفي المذهب : يمشي في طلبه ثلاثة أميال . وقال الشافعي : يمشي في طلبه ما لم يخف فوات رفيق أو وقت ، والأسباب التي لا يجد معها المسافر الماء إنما هي إما عدمه{[4132]} جملة ، وإنما تخوف يحول دونه ، واختلف إذا لم يجد الماء إلا بثمن وهو قادر على الثمن هل هو من الواجد للماء ، فلا يجوز له التيمم أم لا ؟ فقال الحسن{[4133]} البصري : إذا وجد الماء بثمن فليس من أهل التيمم ويشتري الماء ، وإن أتى على ماله كله ويبقى عديما أخذا بظاهر الآية : { فلم تجدوا ماء } ، قال : وهو واجد للماء ، وذهب مالك{[4134]} إلى أنه من أهل التيمم لأنه غير واجد للماء ، ودين الله يسر . وقد قال تعالى : { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } {[4135]} [ البقرة : 185 ] ، وقال : { وما جعل عليكم في الدين من حرج } [ الحج : 78 ] ، إلا أن يكون من أهل المقدرة فيشتريه ما لم يرفعوا عليه في الثمن{[4136]} فيتيمم حينئذ . وقالت طائفة : يشتريه ما لم يزد على القيمة الثلث فصاعدا . وقالت طائفة : يشتريه بالدرهم والدرهمين والثلاثة ونحوها{[4137]} ، وإذا قلنا بوجوب الطلب وأنه شرط في صحة التيمم فهل ذلك شرط في صحة التيمم لكل صلاة عند القيام إليها أو في صحته لما اتصل من الصلوات عند القيام لها{[4138]}أو في صحة التيمم على الإطلاق ؟
و{[4139]} فيه خلاف بين العلماء وحجة القول الأول : ظاهر قوله تعالى : { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم } [ المائدة : 6 ] الآية ؛ لأن هذا يقتضي الوضوء لكل صلاة والتيمم عند عدم الماء أو عدم القدرة على استعماله ، إلا أن السنة خصصت من ذلك الطهارة بالماء ، وهي صلاة النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة الصلوات{[4140]} بوضوء واحد ، وبقي التيمم على أصله ، وإن قلنا : إنه بدل ، فالبدل لا يقوى قوة المبدل منه ، فلا يصح على هذا القول صلاتان بتيمم واحد ، وإن اتصلتا ونواه لهما ، ولا صلاة بتيمم نواه لغيرها ، ولا صلاة بتيمم نواه لها إذا صلى به غيرها أو تراخى{[4141]} عن الصلاة به . ومن فرق في هذا بين نافلة وفرض أو{[4142]} بين صلاتين مشتركتين أو{[4143]} غير مشتركتين ، فقد خرج عن هذا الأصل وراعى الخلاف{[4144]} ، واختلف في الصلاة إذا لم يجد ماء ولا ترابا كحال المكتوف والمحبوس والمهدوم عليه والغريق{[4145]} ومن أشبههم على أربعة أقوال ، فقالت طائفة : يصلون إيماء بغير وضوء أو تيمم{[4146]} ، كصلاة الطالبين للعقد ولا إعادة عليهم وهو قول ابن نافع وسحنون ، وحكي عن أشهب مثله . وقالت طائفة : يصلون وعليهم الإعادة ، وهو قول ابن القاسم وأكثر أصحاب مالك ، وهو قول الشافعي . وقالت طائفة : لا يصلون حتى يجدوا ماء أو ترابا ، فإذا وجدوا ذلك صلوا ، وهو قول أبي حنيفة وأصبغ ابن الفرج المصري . وقالت طائفة : لا يصلون ولا إعادة عليهم . قال ابن خويز منداد : وهو الصحيح عن مالك{[4147]} فوجه قول أشهب وابن القاسم قوله تعالى : { وأقيموا الصلاة } [ البقرة : 43 ] ، فعم . ووجه القول بأنه{[4148]} لا تصح منه الصلاة قوله تعالى : { لا تقربوا الصلاة } إلى قوله : { حتى تغتسلوا } ، وإلى{[4149]} قوله : { فتيمموا } {[4150]} ، فمنع قرب الصلاة إلا بوضوء أو تيمم . واختلف فيمن كان معه من الماء ما لا يكفيه لجميع أعضائه ، فقال مالك : يتيمم وللشافعي مثل ذلك{[4151]} ، وقال الشافعي في أشهر قوليه : يغسل ما أمكنه ويتيمم لما بقي من أعضائه ، وبه قال أبو حنيفة . ودليلنا قوله تعالى : { فلم تجدوا ماء فتيمموا } ، ولم يجعل بينهما واسطة . واختلف إذا كان أكثر الجسد جريحا ولم يبق إلا مثل يد أو رجل ، هل يتيمم أم لا ؟ فذهب مالك إلى أنه يتيمم . وقال الشافعي : يغسل الصحيح منه ويتيمم للباقي{[4152]} ، والحجة لهذا كالحجة للمسألة
ماء أو ترابا ، فإذا وجدوا ذلك صلوا ، وهو قول أبي حنيفة وأصبغ ابن الفرج المصري . وقالت طائفة : لا يصلون ولا إعادة عليهم . قال ابن خويز منداد : وهو الصحيح عن مالك{[4153]} فوجه قول أشهب وابن القاسم قوله تعالى : { وأقيموا الصلاة } [ البقرة : 43 ] ، فعم . ووجه القول بأنه{[4154]} لا تصح منه الصلاة قوله تعالى : { لا تقربوا الصلاة } إلى قوله : { حتى تغتسلوا } ، وإلى{[4155]} قوله : { فتيمموا } {[4156]} ، فمنع قرب الصلاة إلا بوضوء أو تيمم . واختلف فيمن كان معه من الماء ما لا يكفيه لجميع أعضائه ، فقال مالك : يتيمم وللشافعي مثل ذلك{[4157]} ، وقال الشافعي في أشهر قوليه : يغسل ما أمكنه ويتيمم لما بقي من أعضائه ، وبه قال أبو حنيفة . ودليلنا قوله تعالى : { فلم تجدوا ماء فتيمموا } ، ولم يجعل بينهما واسطة . واختلف إذا كان أكثر الجسد جريحا ولم يبق إلا مثل يد أو رجل ، هل يتيمم أم لا ؟ فذهب مالك إلى أنه يتيمم . وقال الشافعي : يغسل الصحيح منه ويتيمم للباقي{[4158]} ، والحجة لهذا كالحجة للمسألة قبلها{[4159]} . واختلف قول مالك في الحاضر إذا خاف فوات الوقت إن عالج{[4160]} الماء ، فعنه في ذلك ثلاث روايات ، أحدها : أن يتيمم ويصلي ولا يعيد ، وقاله الأوزاعي{[4161]} . وقال أيضا : يعالجه وإن فات الوقت ، وقاله أبو حنيفة ، وداود . وقال أيضا{[4162]} : يتيمم ويصلي ويعيد ، وبه قال الشافعي ، فوجه القول الأول قوله تعالى : { فلم تجدوا ماء فتيمموا } ، وهذا{[4163]} كالعادم ، ثم استحب له الإعادة ، ومرة رآه كالواجد للماء فلم يجز له التيمم ، وظاهر قوله تعالى : { لا تقربوا الصلاة } ، وقوله : { إذا قمتم للصلاة } [ المائدة : 6 ] ، أن ذلك في جميع أنواع الصلاة من فرض أو{[4164]} سنة على الأعيان{[4165]} ، كالوتر وركعتي الفجر ، وسنة على الكفاية كالجنائز والعيدين ، على القول بأنها على الكفاية ، ونوافل . وبهذا الظاهر قال مالك وأصحابه في المسافر والمريض الذي نص الله{[4166]} عليه في الآية . وخالف في ذلك عبد العزيز بن أبي{[4167]} سلمة قصر عموم الصلاة على الغرض خاصة ؛ لأنه أوكد من غيره من الصلوات{[4168]} في غير ضرورة ، وإنما جاز التيمم لضرورة الحاجة إلى إقامة الفرض . وقد يحتمل قول عبد العزيز : أن تكون السنن التي على الأعيان عنده مثل الفرض ، لأنها مما لا بد منها{[4169]} ، فيكون هذا قولا ثالثا . وقال ابن سحنون : يتيمم لكل سنة كما يتيمم للفرائض ، فهذا قول رابع . وأما الصحيح المقيم على القول بأنه من أهل التيمم على حسب ما تأول عليه الآية من تأولها ، فإنه يتيمم للفرض باتفاق . ويختلف في تيممه للسنن التي على الأعيان ، وفي السنن التي على الكفاية . والقول الذي ذهب إليه على أنه لا يتيمم{[4170]} ، في النوافل ، وهذا نزوع إلى مراعاة حال الضرورة ؛ كما قال عبد العزيز . وقد اختلف في الحاضر العادم للماء إذا خاف فوات الجنازة والعيدين على القول بأنه ليس من أهل التيمم ، هل يجوز أن يصلي عليها بغير وضوء أم لا ؟ فالجمهور على أنه لا يجوز . وقال الشافعي : يجوز ذلك والحجة عليه أن الصلاة على الجنائز صلاة ، فلم{[4171]} تجز إلا كما قال الله تعالى : { لا تقربوا الصلاة } إلى قوله : { فتيمموا صعيدا طيبا } . وإن خالف في تسميتها صلاة أثبت ذلك عليه بما جاء في الشرع على طريق التواتر في تسميتها صلاة . واختلف إذا وهب للعادم الماء هل عليه قبوله{[4172]} أم لا ؟ فذهب مالك إلى{[4173]} أن عليه قبوله ، وقاله الشافعي ، وقال أيضا : لا يلزم قبوله لما يلحقه في ذلك من المنة وليس بشيء ؛ لقوله تعالى : { فلم تجدوا ماء } وهذا واجد للماء ، وإذا تيمم الرجل ثم وجد الماء قبل الشروع في الصلاة بطل تيممه ، وإن لم يخف فوات الوقت ولزمه استعماله ، وذهب ابن أبي سلمة{[4174]} إلى أنه لا يلزمه{[4175]} استعمال الماء وله أن يصلي بذلك تيمما . ودليل القول الأول : قوله تعالى : { فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا } {[4176]} ، وهذا للماء وإن وجده في حال التشاغل بالصلاة{[4177]} مضى{[4178]} على صلاته . وذهب أبو حنيفة إلى أنه ما لم يقعد في آخر صلاته مقدار التشهد{[4179]} فصلاته منتقضة . وقال الأوزاعي : يخرج من الصلاة ويتطهر ويضيف للركعة{[4180]} إن كان صلاها ركعة أخرى ويجعلها{[4181]} نافلة . ودليل القول الأول قوله تعالى : { ولا تبطلوا أعمالكم } [ محمد : 33 ] ، وإن وجده بعد الفراغ فلا شيء عليه أيضا ، خلافا لطاووس ؛ لأنه{[4182]} في حين الصلاة لم يكن واجدا للماء . وإن نسي الماء في رحله فيتيمم ويصلي ، فعن مالك روايتان ، إحداها : أنه يعيد أبدا . والثانية : إن الصلاة تجزيه ، فإذا قلنا : إنها تجزيه فلقوله : { فلم تجدوا ماء فتيمموا } ، وهذا غير واجد ، ولقوله عليه الصلاة والسلام{[4183]} : " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان " {[4184]} ، وإذا قلنا : إنها{[4185]} لا تجزيه ؛ فلقوله تعالى : { فلم تجدوا ماء فتيمموا } وهذا واجد للماء ، ولأنه أوجب الطلب وجواز{[4186]} التيمم بعد العدم وهذا لم يطلبه ، فوجب أن{[4187]} لا يجزيه . وأما التيمم لغير صلاة مثل{[4188]} التيمم لمس{[4189]} المصحف أو لقراءة حزب ونحو ذلك ، فظاهر الآية قصر ذلك على الصلاة . وقد روي عن مالك أنه أجاز ذلك في السفر .
وقد روي عن غيره أنه أجاز التيمم لدخول المسجد والجلوس فيه في السفر{[4190]} وغير السفر{[4191]} ، وجاء{[4192]} في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم تيمم بالمدينة لرد السلام{[4193]} ، وكان تيممه على جدار . وقد اختلف في التيمم هل يرفع الحدث أم لا ؟ فعند مالك وأصحابه : أنه لا يرفع الحدث وإنما يستباح به ما يستباح بالوضوء والغسل . وذهب أبو سلمة{[4194]} بن عبد الرحمان إلى أنه يرفع الحدث كله الأكبر والأصغر{[4195]} ، معنى هذا أنه إذا تيمم{[4196]} للوضوء أو من الجنابة كان على طهارته أبدا ولم يجب عليه الغسل ولا الوضوء ، وإن وجد الماء ، ما لم يحدث أو يجنب . وقال سعيد بن المسيّب وابن شهاب : إنه يرفع الحدث الأصغر دون الأكبر ، وعلى هذا يترتب الخلاف هل هو بدل{[4197]} من الوضوء والغسل أم{[4198]} من الوضوء خاصة أم{[4199]} ليس ببدل ؟ والأوقات التي تؤدى فيها الصلاة بالتيمم هي أوقات الاختيار ، لأن الله تعالى{[4200]} أمر بأداء{[4201]} الصلاة عند عدم الماء بالتيمم ، وأداء الصلوات هو في وقت الاختيار ، فكذلك يجب أن يكون أداؤها بالتيمم في الوقت الذي تؤدي فيه بالوضوء{[4202]} . وقد اختلف{[4203]} فيمن كان على يقين من بلوغ الماء قبل ذهاب الوقت ، فلم يؤخر وتيمم أوله . فقال ابن القاسم : يعيد في الوقت{[4204]} . وقال ابن حبيب : يعيد في الوقت وبعده{[4205]} ، وقال اللخمي{[4206]} : والقول الأول أحسن ؛ لقوله سبحانه : { إذا قمتم إلى الصلاة } [ المائدة : 6 ] الآية ، فأمر بالصلاة بالتيمم في الوقت الذي أمر فيه الصلاة بالوضوء ولم يفرق . ومن شرط صحة التيمم على المشهور من المذهب دخول الوقت . وقال ابن شعبان : ليس ذلك بشرط ، والدليل على صحة المشهور : قوله تعالى : { إذا قمتم للصلاة } الآية ، ولا يكون القيام لها إلا بعد دخول وقتها .
وقوله تعالى{[4207]} : { فتيمموا صعيدا طيبا } : التيمم في اللغة القصد ، ولذلك قال الشاعر :
تيممت العين التي{[4208]} عند ضارج{[4209]} {[4210]}
وقال آخر{[4211]} :
سل الربع أني يممت أم مالك
والصعيد اختلف فيه ، فقال الخليل : وجه الأرض ، وقال قتادة : الصعيد الأرض الملساء{[4212]} التي لا نبات عليها ، وقال ابن زيد : هي الأرض المستوية ، وقيل : التراب ، و " الطيب " : الطاهر ، وقيل : الحلال ، وهو قول ضعيف ، وقيل : المنبت{[4213]} وعن{[4214]} مالك : أن " الطيب " الطاهر ، وأن الصعيد وجه الأرض ترابا كان أو غير تراب ، فأجاز التيمم بالوحل والحصى والحجارة ونحو ذلك ؛ إلا أنه اختلف أصحابه هل يجوز ذلك مع وجود التراب أم لا ؟ مع اتفاقهم على أن البداية بالتراب أولى . وعند الشافعي أنه التراب ، ومن حجته رواية من روى : " جعلت لي الأرض مسجدا وترابها{[4215]} طهورا " {[4216]} . وأن الطيب هو المنبت{[4217]} ، فلم يجز التيمم على الرمل والحجارة ولا ما عدا التراب . وعندنا قولة نحو قول الشافعي : فحصل الإجماع على إجازة التيمم بالتراب . وأما الذهب والصرف والفضة والياقوت والزمرد{[4218]} والأطعمة كالخبز واللحم وغيرهما ، والنجاسات ، فلا يجوز التيمم عليها إجماعا ؛ لأنه لا يقع عليها اسم الصعيد إجماعا{[4219]} . واختلف في المعادن ، فأجاز مالك التيمم بها ، ومنعه الشافعي ، وذكر بعضهم أن الخلاف يوجد في المذهب{[4220]} فيه والحجة لمالك على أن من خالفه في الصعيد عموم الآية . واختلف في الملح ، فأجيز في المذهب معدنية وجامدة ومنعا جميعا ، وأجيز المعدني ومنع الجامد ، والحجة للجواز ما قدمناه . واختلف في التيمم بالمسك والزعفران بالجواز والمنع . والأظهر المنع{[4221]} ؛ لأنهما ليسا في شيء من الأرض فلا يقع عليها اسم{[4222]} الصعيد . واختلف في التيمم بالتراب على غير وجه الأرض{[4223]} مثل طبق تراب يرفع إلى المريض ونحو ذلك ، فذهب مالك وجمهور أصحابه إلى الجواز{[4224]} . وذهب بعضهم إلى المنع ؛ لأن الله تعالى إنما أمر بقصد وجه الأرض وذلك عبادة ، فلا يجوز غير ذلك .
واختلف فيما طبخ كالآجر والطوب والجص ، ففيه قولان ، في المذهب : الجواز والمنع . وعموم الآية حجة لمن أجازه ؛ لأنه إذا كان في وجه الأرض فالصعيد واقع عليه ؛ لأنه مشاكل للأرض .
واختلف في التيمم على الجدار بالجواز{[4225]} ، والمنع . وحجة من منع ما قدمناه من أن العبادة إنما هي قصد وجه الأرض ، كما أمر الله{[4226]} تعالى ، فلم يجز تعدي وجه الأرض{[4227]} .
واختلف في التيمم على النبات إذا عم وجه الأرض والعود ؛ ففيه في المذهب{[4228]} قولان : الجواز والمنع . والأظهر المنع ؛ لأنه ، وإن كان على وجه الأرض ، فليس في وجه الأرض ولا بمشاكل لها إلا على ما قال يحيى بن سعيد : ما حال بينك وبين الأرض فهو منها . وما أجيز به التيمم من هذه الأشياء ، فإنما أجيز عند عدم التراب ، فإن تيمم به مع الوجود ، فقد قال ابن حبيب في التيمم بالثلج : يعيد أبدا . وقال في التيمم بالحصا{[4229]} مع وجود التراب : يعيد في الوقت . قال بعضهم : وظاهر المذهب أن لا إعادة عليه . والحجة للقول الأول بأن لا إعادة عليه عموم لفظ الصعيد كما قدمناه .
واختلف فيمن يتيمم على أرض نجسة{[4230]} ، فقال ابن القاسم : إذا ذهب الوقت أجزأه ، قال ابن عبد الحكم وغيره : لا يجيزه تعلقا بظاهر قوله تعالى : { صعيدا طيبا } . والتراب{[4231]} الطيب هاهنا الظاهر ، والتيمم لا يكون إلا في عضوين : الوجه واليدين ؛ لقوله تعالى { فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه } {[4232]} [ المائدة : 6 ] ، وعندنا أنه مرتب في العضوين كترتيب الوضوء في أعضائه يمسح{[4233]} الوجه أولا ثم اليدين{[4234]} . وبهذا قول الجمهور ، وهو ظاهر الآية . وأجاز بعضهم فيه{[4235]} ترك الترتيب ، واستدل{[4236]} بما وقع في حديث عمار على بعض الروايات من أنه عليه الصلاة والسلام{[4237]} مسح كفيه قبل وجهه . والصواب ما قدمناه . والفرض في الوجه إيعابه بالمسح ، ويتبع غضونه كما يصنع بالماء ، وسيأتي تحديده في آية الوضوء إن شاء الله تعالى . وأجاز بعضهم ترك تتبع الغضون كالجبين{[4238]} ، وهو قول محمد ابن مسلمة{[4239]} .
واختلف في استيعاب مسح اليدين ، فقال بعضهم : يجزئ المسح وإن لم يصب بعض اليدين ، وهو قول سليمان ابن داود . وظاهر الآية إيعاب جميعهما{[4240]} حتى لا يترك منهما{[4241]} شيء{[4242]} ، وإن كان بعضهم قد استدل بقوله : { فامسحوا بوجوهكم وأيديكم } على أنه يجزئ مسح البعض في ذلك ، ورأى أن " الباء " في هذه الآية " كالباء " في قوله تعالى : { وامسحوا{[4243]} برءوسكم } [ المائدة : 6 ] ، وأنها للتبعيض . وهذا غير صحيح ، فإن " الباء " لا تدل على شيء من ذلك وقد قال تعالى : { وليطوفوا بالبيت العتيق } [ الحج : 29 ] . ولو طاف أحد ببعض البيت لم يجز بإجماع ، وفي حد فرض التيمم فيهما خلاف كثير ، فقيل : إلى الكوعين ، وهو مذهب مالك . وقيل : إلى المرفقين ، وهو مذهب ابن نافع ومحمد بن الحكم . وقيل : إلى الإبط{[4244]} ، وهو مذهب ابن شهاب ومحمد بن مسلمة ، وفي غير المذهب أن يمسح الكفين فقط ، وفي ذلك حديث{[4245]} عن عمار ، وفي مصنف أبي داود أن الرسول صلى الله عليه وسلم مسح إلى أنصاف ذراعيه . ولم يقل بهذا الحديث أحد من العلماء ، فمن قال : إلى الكوعين : كان ذلك منه بناء على تعليق الحكم بأول الأسماء ؛ لأن اليد هي من أطراف الأصابع إلى الإبط وأقل{[4246]} ما{[4247]} ينطلق عليه اسم اليد إلى الكوعين . وحمل التيمم{[4248]} على القطع في السرقة . ويؤيده ما وقع في بعض الأحاديث من المسح إلى الكوعين . ومن قال : الإبط{[4249]} بناه على تعلق{[4250]} الحكم بآخر الاسم ؛ إذ ذاك أكثر ما ينطلق عليه اسم اليد . ويؤكده ما جاء في بعض الأحاديث من أن الراوي ، قال : تيممنا إلى الآباط ، أو قال إلى المناكب . ومن قال : إلى المرافق ، فإنه اتبع الحديث أيضا ، ورد آية التيمم إلى آية الوضوء ، لما كان تستباح به الصلاة كما تستباح بالوضوء ، والحكم إذا قيد في شيء{[4251]} وأطلق فيما بينه وبينه مشابهة ، اختلف الأصوليون في بناء المطلق منهما على المقيد بهذه المسألة .
والعتق في الكفارة والظهار ، وكان حملها على آية الوضوء أولى من حملها على آية القطع ؛ لأن{[4252]} حمل شيء{[4253]} على ما هو من جنسه أولى من حمله على ما ليس من جنسه ، ومالك رحمه الله تعالى{[4254]} ، وإن رأى الفرض إلى الكوعين فإنه يرى التيمم إلى المرفقين . فقال بعض أصحابه : ذلك على أن ما زاد{[4255]} على الكوعين سنة . وقال بعضهم : على أنه فرض ، والأول أظهر لكونه يرى الإعادة في الوقت على من اقتصر على الكوعين . ومن{[4256]} قال بمسح الكفين رأى أن حديث عمار الذي جاء في{[4257]} مسح الكفين خاصة مفسر لليد المذكور في الآية . وفي المسألة قول خامس ذهب إليه ابن لبابة في " منتخبه " ، قال : وإن الجنب يتيمم إلى الكوعين بالسنة لا بالقرآن ، وغير الجنب إلى المنكبين على ظاهر ما في القرآن .
واختلف في المسح الذي أمر الله تعالى به كيف يكون ؟ فقيل : بضربة واحدة{[4258]} للوجه واليدين ، وروي عن مالك نحوه . وقيل : بضربتين : ضربة للوجه وضربة لليدين ، وهو مشهور قول مالك{[4259]} . وقيل : بضربتين : ضربة للوجه واليدين وضربة أخرى أيضا كذلك . وقال بعضهم : ما صنع من ذلك أجزأه ؛ لأن الله تعالى أمر بالمسح ، ولم يخص ضربة من ضربتين ولا وقت الضربات . ورجح ابن الجهم{[4260]} القول الأول ، ورأى أنه ظاهر الآية ، وقال : " فتيمموا " معناه : اقصدوا{[4261]} ، فكان القصد مرة ؛ إذا لم يذكر مرتين . وقال اللخمي : هذا أقيس ؛ لظاهر القرآن ، ولحديث عمار الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم : " إنما كان يكفيك هكذا فضرب بكفيه الأرض ونفخ فيهما ومسح بهما وجهه وكفيه " {[4262]} ، والحديث في البخاري ومسلم . والذي يعتمد عليه ما ذكرته عن مالك لما يعضد ذلك من الآثار المفسرة للقرآن{[4263]} . والذين ذهبوا إلى الترتيب{[4264]} اختلفوا إذا مسح اليد اليمنى أولا وانتهى في الرجوع إلى الركوع ، هل يمر الكف على الكف أم إنما يفعل ذلك بعد مسح اليدين جميعا ، والوقوف في كل واحدة منهما عند الكوع أم لا يكون شيء من ذلك ويكفي من الانتهاء إلى الكوع ، ولا يحتاج إلى مسح الكف على الكف ؟ وهي ثلاثة أقوال يحتمل كل واحد منهما أن تفسر به الآية . وقال محمد بن عبد الحكم : ليس في ذلك حد ، ويفعل في ذلك ما يفعل في الوضوء ، وقال : لا فرق بينهما .
واختلف في المذهب في تحريك الخاتم وتخليل الأصابع على قولين ، أحدهما : أنه يجب . والثاني : أنه لا يجب . وقال محمد بن عبد الحكم : ينزع الخاتم وظاهر الآية تعميم جملة اليد وكان تعميم ذا اليد ، وإذا كان ذلك كذلك وجب تخليل الأصابع وتحريك الخاتم ؛ لأنه إن لم يحرك ولم يخلل بقي من اليد موضع لم يمسح فلم يعم اليد بالمسح .