قوله تعالى : { وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات } إلى آخر قوله تعالى : { وآتوا حقه يوم حصاده } :
اختلف في قوله : { وآتوا حقه يوم حصاده } هل الآية منسوخة أم محكمة فقيل هي منسوخة/ وهي في حق كان على المسلمين قبل أن تفرض الصدقة فنسخها تعالى بالأمر بالزكاة المفروضة وهو قول ابن عباس وابن جبير وابن الحنفية{[8155]} وإبراهيم النخعي{[8156]} .
وقال الضحاك {[8157]} نسخت الزكاة كل صدقة في القرآن . وقيل هي منسوخة لكن نسختها السنة وهو ما أوجبه عليه الصلاة والسلام من العشر ونصف العشر . وذكر بعضهم هذا القول عن ابن عباس وابن الحنفية والسدي . وهو قول ضعيف . وقيل محكمة والمراد بها الزكاة المفروضة وهو قول أنس بن مالك وغيره{[8158]} وقول مالك وأحد قولي الشافعي . وروي أيضا عن ابن عباس وابن الحنفية والضحاك . ويضعف هذا القول لأشياء منها أن السورة مكية والزكاة إنما فرضت بالمدينة . والآية غير مستثناة منها على قول الجمهور وإن كان الزجاج{[8159]} قد حكى أن هذه الآية نزلت بالمدينة . ومنها أنه علق إيتاء الحق بيوم الحصاد وليس ذلك بلازم في الزكاة ولا يمكن ذلك إلا بعد تصفيته وتهذيبه . ومنها قوله تعالى : { ولا تسرفوا } وهذا لا يؤمر به{[8160]} في الزكاة لأنها محدودة . وقيل هي محكمة والمراد بها شيء غير الزكاة وهو واجب على الناس لأمره تعالى بذلك وهو قول سعيد ومجاهد ومحمد بن كعب{[8161]} وأبي عبيد{[8162]} . وقيل هي محكمة والمراد بها شيء غير الزكاة إلا أن الأمر بها أمر ندب . فندب الله تعالى للإنسان أن يعطي من زرعه عند الحصاد وعند الذرو{[8163]} وعند تهذيبه في البيدر . فإذا صفى وكمل وكيل أخرج من ذلك الزكاة . وقال الربيع بن أنس{[8164]} : { حقه } إباحة لقط السنبل وهذا هو الذي نسخ عند من قال بالنسخ{[8165]} والقول بالنسخ في هذه الآية ضعيف{[8166]} لأنها وآية الزكاة قد يجمع بينهما فلا يتعارضان وإذا أمكن ذلك لم يرجع إلى النسخ{[8167]} . وإذا قلنا إن الآية في الزكاة المفروضة فهي آية مجملة لا يفهم المراد منها {[8168]} من لفظها {[8169]} فيحتاج إلى معرفة قدر الحق . فأما قدر الحق المأخوذ فهو العشر ونصف العشر بالإجماع . وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فقال : " في ما سقت السماء والعيون أو كان عثريا العشر وفي ما سقي بالنضج نصف العشر " {[8170]} . ولا خلاف أذكره في القول بأن هذا الحديث مبين للحق المأخوذ . وأما القدر المأخوذ منه ذلك العشر أو نصف العشر فقد قال عليه الصلاة والسلام : " ليس في ما دون خمسة أوسق صدقة " {[8171]} . واختلف في القول بتبيين هذا الحديث للآية . فرأى الجمهور أنه مبين فيكون الحق على هذا القول في الآية العشر أو نصف العشر من خمسة أوسق فما زاد . وذهب قوم – منهم أبو حنفية والنخعي – إلى أن هذا الحديث لا يبين وأن العشر ونصف العشر{[8172]} واجب في كل شيء خمسة أوسق كان أو أقل أو أكثر . ورأى الذاهبون إلى هذا أن حديث الخمسة أوسق أنه خبر آحاد عارض عموم القرآن فكان العموم أولى . وهذا قول ضعيف ، إذ الجمع بين القرآن والحديث ما أمكن أولى من حمله على التعارض واطراح أحدهما . وأما الشيء الذي يجب فيه إذا بلغ خمسة أوسق العشر أو نصف العشر فقد اختلف فيه وهي حبوب وثمار . وأما {[8173]} الحبوب فلا خلاف بين العلماء في وجوب الزكاة في القمح والشعير لقوله تعالى : { وآتوا حقه يوم حصاده } . وقد ذكر الزرع قبل ذلك واختلفوا في ما عداهما . فمالك وأبو حنيفة والشافعي وغيرهم رحمهم الله تعالى قاسوا عليها سائر الحبوب المدخرة المقتاتة ، ولم يقس غيرهم فلم ير {[8174]} زكاة في ما عداهما من الحبوب وهو قول سفيان الثوري{[8175]} والحسن وابن سيرين والشعبي وإليه ذهب أبو عبيد{[8176]} .
وقد روي ذلك عن أبي موسى{[8177]} عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعا . وقال الأوزاعي{[8178]} : أن الزكاة في القمح والشعير والسلت خاصة . وقال الليث{[8179]} : كل ما يختبز ففي حبه الصدقة . واختلف قول أصحاب مالك في العلس وزريعة الفجل وزريعة الكتان وزريعة القرطم{[8180]} هل فيها زكاة أم لا . وأما الثمار فالشافعي وابن وهب{[8181]}لا يريان الزكاة إلا في ثمار النخيل والأعناب التي لا خلاف بين العلماء في وجوب الزكاة فيها . ولعموم الآية ولما ورد من الأخبار فيها منها قوله عليه الصلاة والسلام : " ليس في ما دون خمسة أوسق صدقة " فدل أن الصدقة تجب في ما يوسق ويدخر قوتا من الأقوات . وفي بعض روايات هذا الحديث عن أبي سعيد الخدري{[8182]} : ليس في ما دون خمسة أوسق من التمر صدقة . فخصص التمر والزبيب مقيس عليه وقال بعض العلماء ذكر التمر في حديث أبي سعيد الخدري محمول عند أهل العلم على أنه خرج على سؤال سائل فلا تعلق لأحد بظاهره في إسقاط الزكاة مما يوسق مما عدا التمر . ومالك يراها فيهما وفي الزيتون . وابن حبيب{[8183]} يراها فيهما وفي الرمان وفي جميع الثمار الثمانية كان مما يدخر أو لا يدخر وهو قول ابن الماجشون{[8184]} لظاهر قوله تعالى : { وهو الذي أنشأ جنات معروشات } الآية . وقوله تعالى : { كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده } بعد أن ذكر الرمان في ما ذكر .
وأبو حنيفة يراها في كل ما أنبتت الأرض مما يؤكل بقول النبي صلى الله عليه وسلم : " فيما سقت العيون والسماء العشر وفيما سقي بالنضج نصف العشر " وحجة الجمهور {[8185]} من الاقتصار على إيجاب الزكاة في الثمار الثلاثة{[8186]} عمل أهل المدينة . وقوله عليه الصلاة والسلام : " ليس في الخضروات صدقة " {[8187]} ومن حجة من أوجب الزكاة فيما عدا ذلك أنه تعالى لما ذكر في الآية الجنات وهي تحتوي على جميع النبات وذكر مع ذلك الزرع والنخيل والزيتون والرمان ثم قال بعد ذلك : { وآتوا حقه يوم حصاده } أعاد{[8188]} ذلك على جميع ما تقدم . ومن حجة من لا يرى ذلك أن يقول{[8189]} الظاهر من قوله تعالى : { وآتوا حقه يوم حصاده } أن المراد الحبوب فإن الحصاد لا يطلق حقيقة إلا عليه . وإنما يطلق على ما دونه مجازا . وقد يمكن أن يراد بالحق في قوله تعالى : { وآتوا حقه يوم حصاده } الإنفاق من ذلك على نفسه وقرابته وصرفه في الوجوه {[8190]}الواجبة . فمن أين {[8191]} أن ذلك في العشر ونصف العشر . وإذا احتمل هذا لم يصح الاحتجاج بالآية في {[8192]} الزكاة .
وقد اختلف فيما يأكله الرجل من ثمره أو زرعه قبل الجذاذ والحصاد هل يحسب عليه أم لا على قولين . المشهور من المذهب أنه يحسب وقال الليث والشافعي لا يحسب عليه {[8193]} ويترك له الخارص ما أكله أهله رطبا ولا يخرصه . قال الشافعي : قوله تعالى : { وآتوا حقه يوم حصاده } على العموم . أي آتوا جميع المأكول والباقي . والخلاف عندي في هذا {[8194]} يترتب على الذي يتعلق به قوله تعالى : { وآتوا حقه يوم حصاده } فمن علقه بآتوا رأى أنه لا يترك لهم شيء . ومن علقه بحق {[8195]} رأى أنه يترك لهم . وإذا علقنا يوم حصاده بآتوا ففيه أن الزكاة ينبغي إخراجها {[8196]} عند الحصاد والجذاذ والأمر عند العلماء بذلك أمر ندب . وأما إيجابه فلا أذكره قولا لأحد .
وقد استدل بعض الشيوخ بهذه الآية على إبطال قول أبي حنيفة في أن الأرض المكتراة للزراعة لا زكاة على المكتري فيما رفع من زرعها وإنما زكاة ذلك الزرع على صاحب الأرض المكري لها . وذلك قوله في أرض الخراج . قال الشيخ لأنه تعالى قال : { حقه } فأضاف الثمن إلى الخراج من الأرض فاقتضى ذلك إجابة في المضاف إليه وهو الخارج من الأرض لا في الأرض .
وقوله تعالى : { ولا تسرفوا } من جعل الآية في الزكاة المفروضة جعل النهي على الإسراف إما للناس في المنع من أداء الزكاة وبه قال ابن المسيب ، وإما للولاة في الاشتطاط على الناس والإذاء لهم وبه قال ابن زيد . وكلا الفعلين من الناس ومن الولاة إسراف في الفعل ومن جعل الآية على جهة {[8197]} الندب أو الإيجاب في حقوق غير الزكاة المفروضة {[8198]}فعلى أن {[8199]} النهي للناس عن الإسراف لما في ذلك من الإجحاف بالأموال والإتلاف لها . وروي أن الآية نزلت لأن ثابت بن قياس بن شماس {[8200]} صرم خمسمائة نخلة ثم قال : والله لا جاءني اليوم أحد {[8201]} إلا أطعمته . فأمسى وليس عنده تمر فنزلت . ومن قال إن الآية منسوخة رأى أن النهي كان في وقت حكم الآية . فهذه أربعة أقوال في الآية {[8202]} . وقيل معناها لا تحرموا ما حرمت الجاهلية من الأنعام وهو قول مجاهد . وقيل معناها : لا تنفقوا أموالكم فيما لا يحل لكم لأنه قد أخبر عنهم أنهم قالوا هذا لشركائنا .