وقوله تعالى : { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه } :
وقال في سورة الحشر {[8629]} : { وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب } [ الحشر : 6 ] ثم قال تعالى بعد ذلك : { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله } [ الحشر : 7 ] فتضمنت هذه الآية حكم أموال الكفار المأخوذة منهم إلا أنه تعالى ذكرها في سورة الأنفال باسم الغنيمة وذكرها في سورة الحشر باسم الفيء وهي قد تؤخذ منهم بقتال وقد تؤخذ بغير قتال وكلا الاسمين {[8630]} قد يجوز أن يطلق في الاستعمال على كل واحد من الوجهين . وقد اضطربت أقوال المفسرين في ذلك اضطرابا كثيرا ، وتأصيلها أن منهم من قال إن الاسمين جميعا لمعنى واحد {[8631]} وأن الآيات جاءت في حكم ما أخذ من الكفار بالقتال ثم اختلف هؤلاء .
فقال قوم إن ما في سورة الحشر اقتضى أن يقسم المأخوذ بالقتال على الأصناف المذكورين في السورة دون إخراج الخمس {[8632]} وأن ذلك منسوخ بآية الأنفال وأن الخمس في ذلك هو المقسوم على الأصناف المذكورة خاصة والأربعة الأخماس للغانمين ولم يفرقوا بين الأرض وغيرها {[8633]} وضعف بعضهم هذا القول بالنسخ بأن آية {[8634]} الأنفال نزلت قبل {[8635]} آية الحشر ولا يصح النسخ مع ذلك {[8636]} ومنهم من قال إن ما في الحشر مخصوص في الأرض المغنومة عنوة من الكفار فاقتضى ذلك أنها لا تخمس وأن النظر فيها للإمام ولا يقسم بين الغانمين وأن ما في الأنفال عام في الأرض وغيرها من أموالهم وأن ذلك اقتضى أنها تخمس ويقسم ما بقي بين الغانمين {[8637]} ثم اختلف الذاهبون إلى هذا {[8638]} فقال بعضهم : إن هذا {[8639]} يقتضي تخيير الإمام في إبقاء هذه الأرض وقسمتها بين الغانمين {[8640]} قالوا : وقد قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم أرض خيبر بسبب عموم آية الأنفال . وترك عمر رضي الله تعالى عنه أرض العراق ومصر فلم يقسمها وأنه تأول في ذلك آية الحشر وقوله تعالى : { والذين جاؤوا من بعدهم } [ الحشر : 10 ] الآية وإلى هذا ذهب أبو عبيد {[8641]} ومنهم من ذهب إلى أن الحشر نسخت آية الأنفال في حكم الأرض خاصة لأن النبي صلى الله عليه وسلم بين بفعله في أرض خبير أنها على عمومها في الأرض وغيرها فنسخت آية الحشر من ذلك الأرض خاصة فلا تقسم على حال وإلى هذا ذهب إسماعيل القاضي {[8642]} ومنهم من قال إن آية الحشر مبينة أن {[8643]} المراد بآية الأنفال ما عدا الأرض من الغنائم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما قسم أرض خبير لأن الله عز وجل وعد بها أهل بيعة الرضوان فقال : وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه . فأرض خبير كانت مخصوصة بهذا الحكم دون سائر الأرض المغنومة فلا تقسم الأرض . ومنهم من قال إن آية الأنفال هي الناسخة لآية الحشر فيما اقتضته آية الحشر مع منع القسمة في الأرض فيقسم ولا بد . فتحصل من هذا في الأرض المغنومة بالقتال ثلاثة أقوال :
أحدها : أنها تقسم كسائر الغنائم وهو قول الشافعي{[8644]} .
والثاني : أنها لا تقسم كما فعل عمر رضي الله تعالى عنه وتبقى لأرزاق المسلمين ومصالحهم .
والثالث : أن الإمام مخير {[8645]} فيها بين القسمة والإبقاء وهذان القولان عن مالك رحمه الله تعالى {[8646]} . والذين ذهبوا إلى أنها تقسم على مقتضى آية الأنفال تأولوا فعل عمر رضي الله تعالى عنه من إبقاء سواد العراق على أنه استطاب أنفس الغانمين وأرضاهم عن ذلك{[8647]} .
ومنهم من قال إن آية الحشر نزلت في حكم الخمس خاصة ولم يذكر فيها الخمس فهو{[8648]} المراد بها وأن آية الأنفال موافقة لها إلا أنه صرح فيها بذكر الخمس ولم يصرح في آية الحشر ، فهو لفظ عام أريد به شيء خاص . فليس في كتاب الله تعالى على هذه الأقوال حكم لما أخذ من الكفار بغير قتال وإنما يتلقى ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم . وذهب قوم إلى أن {[8649]} الاسمين أيضا {[8650]} بمعنى واحد وأن اللغة تقتضي ذلك وأن الآيتين جاءتا في حكم ما أخذ من الكفار بقتال وبغير قتال وأن المالين {[8651]} في الحكم سواء يؤخذ منهما الخمس حتى من حزمة الجماجم وخراج الأرض وهو الذي يأتي على قول الشافعي ، فإن ذلك كله يخمس . والنظر في آية الأنفال وآية الحشر على هذا هو النظر المتقدم إما بالنسخ وإما بالبيان ويكون على هذا حكم المالين متلقى من القرآن {[8652]} . وذهب قوم إلى أن الغنيمة والفيء اسمان لمعنيين {[8653]} وأن الغنيمة ما أخذ من الكفار بقتال والفيء ما أخذ منهم بغير قتال وأن الحكم فيهما مختلف على ظاهر الآيتين {[8654]} . فالغنيمة تخمس على نص آية الأنفال والفيء لا يخمس على ظاهر آية الحشر فلا تعارض على هذا بين الآيتين ولا يفرض فيها نسخ ولا بيان ولا يكون على هذا فيما أخذ من أموال الكفار بغير قتال خمس كان {[8655]} مما جلوا عنه أو جزية أو خراج أرض أو نحو ذلك وهو قول الجمهور وبه قال مالك وجميع أصحابه وهو أظهر الأقوال . وذهب قوم – على ما ذكر بعض المتأخرين – إلى عكس هذا القول فزعم أن الغنيمة ما أخذ من الكفار بغير قتال ، والفيء ما أخذ منهم بالقتال ، قال وهو محتمل في اللسان . وذهب قوم إلى أن آية الحشر وردت في شيء مخصوص بعينه فلا تعارض بينها {[8656]} وبين آية الأنفال وذلك في أموال بني النضير التي أجلوا عنها فجعلها الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم يفعل فيها ما يراه {[8657]} . وروي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم أحبس جميعها لنفسه ومصالح المسلمين ولم يقسمها ، فتكلم في ذلك قوم فأنزل الله تعالى الآية . وقال ابن زيد لما خص {[8658]} رسول الله صلى الله عليه وسلم بأموال بني النضير المهاجرين تكلم في ذلك بعض الأنصار فنزلت الآية . وذهب قوم إلى {[8659]} أن في {[8660]} آية الحشر حكمين فقوله تعالى : { وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم } [ الحشر : 6 ] الآية نزلت في مال بني النضير الذي هو خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم . وقوله تعالى : { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى } الآية [ الحشر : 7 ] هو في حكم الجزية والخراج بهما للأصناف المذكورين في الآية وروي ذلك عن معمر {[8661]} . وقد اختلف في هذه الآية هل هي ناسخة لقوله تعالى : { قل الأنفال لله والرسول } [ الأنفال : 1 ] أم لا . وقد مر الكلام على ذلك . والقول بأنها ناسخة هو قول مجاهد وابن عباس وذلك أن قوله تعالى : { قل الأنفال لله والرسول } عنهما اقتضى أنه جعل به للنبي صلى الله عليه وسلم أن ينفل ما أحرزه {[8662]} بالقتال لمن يشاء {[8663]} ولم يكن فيه حق لأحد إلا لمن جعله الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك يوم بدر . ويبين ذلك حديث سعد في قصة السيف الذي استوهبه من النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر . فقال : " إنك سألتني هذا السيف وليس هو لي ولا لك وقد جعله الله تعالى لي وجعلته لك " {[8664]} وكذلك قوله تعالى : { فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا } [ الأنفال : 69 ] يقتضي أن تكون الغنيمة للغانمين فينزلون فيها على السواء دون إخراج خمس ولا غيره . إلا أن قوله في هذه الآية { واعلموا أنما غنمتم من شيء } يبين {[8665]} أن ذلك بعد إخراج الخمس وصرفه في الوجوه المذكورة ، ففي هذا بيان الأربعة الأخماس للغانمين . وقال بعضهم هذا مثل قوله تعالى : { ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث } [ النساء : 11 ] فلما ذكر تعالى أن المحيطين بالميراث الأبوان ثم ذكر أن للأم الثلث دل ذلك على أن الثلثين للأب دلالة قطعية {[8666]} . وهذا النوع من الدلالة يسميه الأصوليون مقتضى الخطاب . وكذلك هذه الآية لما ذكر تعالى الغانمين للغنيمة وخاطبهم ثم أخرج من الغنيمة الخمس للأصناف المذكورين دل ذلك على {[8667]} البقية {[8668]} للغانمين . وهذا{[8669]} الحكم في الغنيمة يجري {[8670]} في كل مغنوم إلا ما خصه الدليل مثل المأكول من الغنيمة فإنه مباح للغانمين أكله إذا احتاجوا إليه في الغزو دون أن يشترط فيه إخراج خمس .
ومن ذلك أموال الرهبان اختلف فيها {[8671]} . فذهب جماعة إلى أنها على حكم الغنائم إلا أنه استحب مالك رحمه الله تعالى أن يترك لهم قدر ما يعيشون به . وذهب غيره إلى أنها شرك لهم ولا تكون مغنومة والحجة على ما قال تلك الآية ، والآية أيضا عامة في الغانمين إلا ما خصه الدليل . وقد اختلف فيما غنمه النساء والصبيان إذا انفردوا بالغنيمة هل تخمس أم لا ، وكذلك اختلف في العبيد إذا غنموا كان معهم حر أم لا هل يخمس ما أصابوه من الغنيمة أم لا . وحجة من يرى التخميس في {[8672]} ذلك عموم الآية .
وحجة من لا يرى {[8673]} التخميس في ذلك كله أنه يراهم غير داخلين في الخطاب إلا بدليل ، وفي هذا خلاف بين الأصوليين {[8674]} .
واختلف في الذميين هل يخمس ما غنموه أم لا ؟ . ففي المذهب أنه يخمس خرجوا بغير إذن الإمام أو بإذنه . وقال بعض أصحاب مالك إن خرجوا {[8675]} بإذن الإمام فلا خمس {[8676]} وإن خرجوا {[8677]} بغير إذنه ففي ما غنموه الخمس . وقال أبو حنيفة لا خمس في ما غنموه جملة حتى يكونوا جماعة لهم منعة ويأذن لهم الإمام . وقال أبو يوسف إذا كانوا تسعة ففيه الخمس {[8678]} . ودليل من رأى الخمس كله في ذلك عموم الآية . واختلف أيضا في الطائفة تخرج من البلد فتغنم . ففي المذهب أن ما غنمت يخمس ، وقال أبو حنيفة لا يخمس . ودليل المذهب عموم الآية ، ودليل أبي حنيفة أنهم غزوا بأنفسهم فأشبهوا المتفرد بالقتال على القول بأنه يستحق السلب فلا يخمس {[8679]} وقال بعضهم المأخوذ من الكفار على جهة التلصص اتفق العلماء على أنه لا يخمس . وظاهر القرآن يقتضي تخميس كل مغنوم . وكذلك اختلف في سلب القتيل هل يخمس أم لا . فقيل هو كسائر الغنيمة يخمس ولا ينفرد به القاتل إلا أن يرى الإمام أن يخص به بوجه اجتهاد فله ذلك ، ولا يكون إلا من الخمس وهو قول مالك . وقيل السلب للقائل وهو أحد قولي الشافعي {[8680]} وقيل إن كان السلب يسيرا فهو للقاتل وإن كان كثيرا خمس {[8681]} وفعله عمر بن الخطاب مع البراء بن مالك {[8682]} حين بارز المرزبان فقتله وكانت قيمة منطقته وسواريه ثلاثين ألفا فخمس ذلك وروي في ذلك حديث {[8683]} عن النبي صلى الله عليه وسلم أخرجه أبو داود . وقيل السلب للقاتل ولكنه يخمس {[8684]} وروي نحوه عن عمر بن الخطاب .
وروى ابن خويز منداد {[8685]} هذا عن مالك أن الإمام مخير فيه إن شاء خمسه على الاجتهاد كما عمل عمر في حديث البراء وإن شاء لم يخمسه واختاره إسماعيل بن إسحاق {[8686]} . وحجة الجمهور عن مالك ظاهر الآية وإذا قلنا بمقتضى الآية في أن الأربعة أخماس للغانمين فهل المرأة المقاتلة داخلة في هذا الحكم فيسهم لها أم لا . ذهب الأوزاعي إلى أنه يسهم لها . قال : وقد أسهم لها الرسول صلى الله عليه وسلم بخيبر وأخذ المسلمون بذلك . وذهب مالك والليث والشافعي والثوري والكوفيون إلى أنه لا يسهم لها ولكن يرضخ لها واحتجوا بكتاب ابن عباس إلى نجدة {[8687]} وقوله : إن النساء كن يحضرن القتال فيداوين المرضى ويجنين {[8688]} من الغنيمة ولم يضرب {[8689]} لهن بسهم . وروى ابن وهب عن مالك أنه لا يسهم لهن {[8690]} ولا يرضخ . هذا أصح لأنهن لسن فيمن أمر بالقتال ولا لهن فيه عناء مذكور فلم يدخلن في الخطاب بقوله تعالى : { واعلموا أنما غنمتم من شيء } . وكذلك اختلف في العبيد والصبيان إذا قاتلوا . فقيل يسهم لهم وقيل يرضخ وقيل لا يرضخ ولا يسهم{[8691]} والحجة لمن لا يرى {[8692]} لهم شيئا أنهم عنده لا يدخلون في الخطاب في الآية . وظاهر الآية{[8693]} أيضا يقتضي الاشتراك في الغنيمة قليلها وكثيرها فلا يجوز إخراج شيء منها قبل القسمة إلا أن يدل عليه دليل من السنة . وقد مر الكلام في السلب والنفل هل يكون من رأس الغنيمة أم لا . وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان له من الغنيمة شيء يصطفيه لنفسه قبل القسمة فرس أو بعير أو عبد أو أمة أو نحو ذلك على قدر الغنيمة ، وكانوا يسمونه الصفي . وذكر أن صفية {[8694]} كانت من الصفي . وأجمع العلماء أن ذلك ليس لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا أبا ثور فإنه حكي عنه ما يخالف هذا الإجماع فقال : الآثار ثابتة في الصفي ولا أعلم شيئا نسخه قال : فيأخذ الإمام الصفي ويجري مجري النبي صلى الله عليه وسلم فيه . وهذا القول يرده ظاهر الآية لأن الله تعالى لم يذكر بعد الغنيمة شيئا إلا القسمة ومع هذا فإنه لم يذكر عن أحد من الخلفاء أنه فعله ، وعلى هذا يتركب {[8695]} الخلاف في الغنيمة هل يملكها الغانمون بنفس الغنم أو يملكونها بالقسمة . وعلى هذا يتركب الخلاف {[8696]} في من زنا بأمة من المغنم قبل القسمة {[8697]} هل يحد أم لا . وفيه قولان في المذهب . وذكر تعالى في هذه الآية قسمة الخمس على أصناف كثيرة مخصوصة . وذكر في سورة الحشر قسمة الفيء على تلك الأصناف بعينها فاقتضى ذلك أن حكم {[8698]} الفيء والخمس سواء وهو مذهب مالك رحمه الله تعالى . وأما الشافعي فيرى أن خمس الفيء هو الذي يجري مجرى خمس الغنيمة في القسمة على الأصناف المذكورين في الآية {[8699]} . واختلف قوله في ما بعد الخمس من الفيء على ثلاثة أقوال : أحدها : أنه للمصالح كخمس الخمس ، والمصالح هي سد الثغور وعمارة القناطر وأرزاق القضاة ونحو ذلك . والثاني : أن حكمه حكم الخمس من الغنيمة فيكون جملة الفيء مقسومة على خمسة أسهم على ظاهر الكتاب ، وهذا القول يقرب من قول مالك رحمه الله تعالى . والثالث : أن يكون للمرتزقة المقاتلين كأربعة أخماس الغنيمة . قال أبو الحسن {[8700]} : إن الله تعالى كما أضاف الغنيمة إلى الغانمين أضاف الفيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال تعالى : { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى } الآية [ الحشر : 7 ] فاقتضى ظاهر الآية أن يجعل بعد إخراج الخمس منه أربعة أخماسه لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما يختص الغانمون بأربعة أخماس الغنيمة بعد إخراج الخمس منها ، لأن الله تعالى قد أضافها للغانمين فقال : { مما غنمتم } وقال : { فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا } [ الأنفال : 69 ] فاقتضى ظاهر هذا أن يكون كل الغنيمة للغانمين ، ثم خص منها البعض فبقي الباقي على أصل الإضافة ، وهذا حسن بين . قال ومن جملة الفيء مال المرتد إذا قتل عن الردة {[8701]} . وظاهر القرآن في الخمس والفيء أنهما مقسومان على ستة أسهم لأن الله تعالى ذكر ستة أصناف . وقد قال بهذا الظاهر جماعة من أهل العلم {[8702]} وجعلوا أسهم الله تعالى سبل الخير إلا أنهم اختلفوا هل هذه القسمة بالسواء أو بالاجتهاد على قولين . وجعل بعضهم سهم الله تعالى أنه {[8703]} سهم للكعبة{[8704]} فقالوا {[8705]} فيؤخذ سهم الكعبة بالاجتهاد ويقسم الباقي على الخمسة الأصناف الباقين بالسوية {[8706]} وتأول بعضهم الآية على غير ظاهرها فقال : قول الله تعالى المراد به أن يفتتح الكلام بذكر الله تعالى لأن الدنيا وما فيها لله تعالى لا أن لله سهما {[8707]} في الغنيمة ، قالوا فتبقى القسمة بعد هذا بين خمسة أصناف وهذا قول الشافعي {[8708]} وتأول آخرون أن معنى قوله تعالى : { فأن لله خمسه وللرسول } أن لهما الحكم في ذلك بين من سمي في الآيتين قالوا فتكون القسمة بين أربعة أصناف ولا أكثر من قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم واليتامى والمساكين وابن السبيل وهو قول الشافعي أيضا . وتأول بعضهم أن هذين المثالين لجميع المسلمين يوضعان في منافعهم ويقسمان عليهم ولا يختص به الأصناف المذكورون في الآيتين لكن خصوا بالذكر تأكيدا لأمرهم ، وهذا مذهب مالك رحمه الله تعالى . قال أبو إسحاق الزجاج {[8709]} : وهذا مثل قوله تعالى : { يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين } الآية [ النساء : 215 ] . وعلى هذا قول عمر رضي الله تعالى عنه : ما من أحد إلا وله حق في هذا المال أعطيه أو منعه حتى لو كان راعيا أو راعية بعدن . وذهب أبو حنيفة إلى أنه يقسم على ثلاثة : اليتامى والمساكين وابن السبيل فأسقط ذوي القربى . ومن ذهب إلى هذا لم يحرم على قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الصدقة . ومن حجة من قال بهذا منع أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله تعالى عنهم لذوي القربى{[8710]} . وقد يقال في الجواب عن هذا أنه لم يثبت المنع بل عورض بنو هاشم لأن قريشا كلها قربى وقيل لم يكن في زمان أبي بكر مغنم .
والذين ذهبوا إلى أن الأصناف المقسوم عليهم الخمس ثلاثة اختلفوا هل المراد بهم من كان من قريش خاصة أو من كان من جميع الناس {[8711]} على قولين . والأظهر من جميع الناس لعموم الآية . وإذا قلنا بثبوت سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه كان ثابتا {[8712]} له في حياته وأما بعد موته فاختلف فيه فقيل هو مردود على أهل الخمس القرابة وغيرهم وقيل هو مردود على الجيش أصحاب الأربعة أخماس وقيل هو لقرابته بعده صلى الله عليه وسلم . وقال من ذهب إلى أن الأنبياء يورثون أنه موروث عنه . وقيل هو موقوف على مصالح المسلمين كأرزاق الجيش {[8713]} وإعداد الكراع والسلاح وبناء الحصون والقناطر وأرزاق القضاة والأئمة ونحو ذلك وهو الذي اختاره أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما . وقيل هو في الكراع والسلاح وقيل هو للخليفة بعده وهو قول أبي ثور وفي هذا حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إذا أطعم الله لنبي طعمة فهي للخليفة بعده " {[8714]} . قال ابن عبد البر{[8715]} وهو حديث لا تقوم به حجة . وإذا قلنا أيضا بثبوت سهم ذوي القربى في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد اختلف فيه بعد موته صلى الله عليه وسلم . فقيل هو ساقط وهو قول أبي حنيفة في أن الخمس يقسم على ثلاثة خاصة . وقيل هو لقرابة الإمام بعده صلى الله عليه وسلم . وقال قتادة كان سهم ذوي القربى طعمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان حيا ، فلما توفي جعل لولي الأمر بعده . وقيل هو لقرابته صلى الله عليه وسلم موقوف عليهم {[8716]} إلى يوم القيامة وقد بعثه إليهم عمر بن عبد العزيز ، وهذا القول أظهر الأقوال لعموم الآية . وذكر الطبري عن الحسن أنه قال اختلف الناس في سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم هل هو {[8717]} لقرابته {[8718]} بعد وفاته وساق الخلاف ثم قال : فاجتمع رأيهم على أن يجعلوا هذين القسمين في الخير والعدة فكان ذلك مدة أبي بكر قال بعضهم ومدة عمر رضي الله تعالى عنه {[8719]} .
واختلف الذين أثبتوا لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم سهما من الغنيمة فقال قائلون هو لفقرائهم عوضا عما {[8720]} حرموا من الصدقة . وقال آخرون هو لفقرائهم وأغنيائهم وهو ظاهر عموم الآية . واحتج الذين شرطوا الفقر بذكر {[8721]} اليتامى معهم في الآية وأنه لا يصرف إلى اليتامى {[8722]} إلا إذا كانوا فقراء ولا فرق {[8723]} ثم الذين أثبتوا لهم أسهما اختلفوا في كيفية قسمته بينهم .
فمنهم من قال يقسم قسمة الغنيمة على السواء ومنهم من قال على قسمة المواريث فإنه مال مستحق بالقرابة {[8724]} . واختلف أيضا في اعتبار الحاجة مع اليتم فاعتبرها الشافعي في أحد قوليه ولم يعتبرها غيره ، وهذا التخصيص من الشافعي لليتيم بالحاجة مثل تخصيص أبي حنيفة للقرابة بالحاجة والمسألة في محل الاجتهاد وسياق الآية محتمل لذلك كله . وعلى هذا أيضا يتركب {[8725]} الخلاف في ابن السبيل هل يعتبر فيه الحاجة أم لا وقد مضى القول عليه في آية الصدقة . واختلف في تعيين القرابة الذين ذكرهم الله تعالى في الآية اختلافا كثيرا فقال قوم هم بنو هاشم وهم الذين تحرم عليهم الصدقة وهو قول مالك والشافعي والثوري والأوزاعي وأبي حنيفة . وقال آخرون يدخل بنو المطلب مع بني هاشم وهو قول الشافعي والحجة لهم حديث ابن شهاب {[8726]} عن سعيد بن المسيب عن جبير بن مطعم قال : قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم{[8727]} ذوي القرب لبني هاشم وبني المطلب من الخمس وقال : " إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد " {[8728]} وقيل هم بنو هاشم وبنو عبد مناف ، زاد بعضهم وبنو قصي وبنو مرة وبنو كعب ، زاد بعضهم وبنو لؤي وبنو غالب . قال وهو مذهب أصبغ . وذكر بعضهم عن أصبغ أنه قال آل محمد الذين لا تحل لهم الصدقة عشيرته الأقربون الذين ناداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزل عليه قوله تعالى : { وأنذر عشيرتك الأقربين ( 214 ) } [ الشعراء : 214 ] وهم آل عبد المطلب وآل هاشم وآل عبد المناف وآل قصي .
قال أصبغ {[8729]} وقد قيل قريش كلها وهذا مصير إلى التعليل {[8730]} بالقرابة خاصة . ومن خصص ذهب إلى التعليل بالنصرة {[8731]} في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم واستدلالا بحديث جبير بن مطعم . وقد ساق المفسرون في أحكام هذه الآية مسائل لا يقوم على أكثرها دليل من ألفاظ الآية مثل هل يحتاج القاتل في أمر السلب إلى بينة على القتل أم لا . فالجمهور على أنه لا بد من شاهدين وقيل يجزي شاهد واحد {[8732]} وقيل يعطى القاتل السلب بمجرد دعواه {[8733]} ومثل الذي يكون من السلب فلا خلاف أن السلاح من السلب واختلف في الفرس ولا خلاف أن ما وجد في منطقة القتيل أنه – من دنانير أو جواهر أو نحوها – فليس بسلب . واختلف في ما يتزين به للحرب ويهول به كالتاج والسوارين والأقراط والمناطق المثقلة بالذهب والأحجار . وقال سحنون {[8734]} ليس شيء من ذلك سلبا إلا المنطقة {[8735]} ومثل لو قال الإمام من قتل قتيلا فله سلبه فقتل ذمي قتيلا إلى غير ذلك .
وليس غرضنا في {[8736]} هذا الكتاب إلا ما يقوم عليه دليل من الآية ثم يستقر ملك الغانمين على الغنيمة هل بنفس الغنيمة أم بالقسمة على قولين . واحتج الذين يقولون بنفس الغنيمة بقوله تعالى : { واعلموا أنما غنمتم من شيء } الآية ، قالوا : فأضاف الغنيمة إليهم إضافة ملك . وقال أهل القول الثاني ليس معنى غنمتم ملكتم وإنما معناه أخذتم من أيدي الكفار وذلك لا يقتضي ملكا . وللخلاف في هذا فوائد : فمنها إذا زنا الرجل بأمة من المغنم أو سرق من المغنم فهل يحرم أم لا . وفي ذلك قولان . ومنها هل للإمام أن يتصرف في{[8737]} المغنم قبل أن يقسم أم لا . فمنهم من رأى للإمام أن يدفعه لمصالح المسلمين إن شاء وله أن يمن به على أهله إن شاء وله أن يتركه للغانمين إن شاء . قالوا وقد أقر الرسول صلى الله عليه وسلم {[8738]} مكة لأهلها ورد سبي هوازن عليهم . ومنهم من رأى الغنيمة ملكا للغانمين بنفس الغنيمة ولم ير للإمام فيها حكما سوى القسمة بين الغانمين ، وقالوا إنما الإمام كبعض من حضر الوقعة من الناس إلا ما خصه الله به من الخمس ، واعتذر أهل هذه المقالة بأن ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في سبي هوازن إنما كان بعد استطابة أنفس الغانمين . واختلف في القوم يغنمون ثم يأتيهم مدد لدار الحرب هل يشركونهم أم لا . فعند أصحاب مالك أنهم لا يشركونهم ، وقال أبو حنيفة يشركونهم لأن الغنيمة لا تقسم بدار الحرب . ودليل أصحاب مالك الآية لأنه جعل باقي الغنيمة بعد الخمس للغانمين ومن جاء بعد تقضي الحرب لم يغنم شيئا . وقد اختلف هل يفضل الفارس على الراجل أم لا . فذهب مالك أن للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهما . وقال أبو حنيفة : لا يفضل ، وإنما للفارس سهمان : سهم له وسهم لفرسه {[8739]} . قال أبو الحسن : ليس في الآية دليل على تفضيل الفارس على الراجل بل فيها أنهم سواء {[8740]} ودليل مذهب مالك ما روى ابن عمر قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسهم للخيل : للفرس سهمان ، ولفارسه سهم {[8741]} . وقوله تعالى : { غنمتم } يشمل الرقاب والعقار وقد مضى الكلام في العقار ، وأما الرقاب فقد جاء فيها من الخيرة للإمام ما جاء ، ومال الصدقات الذي قال الله تعالى فيه : { إنما الصدقات للفقراء } الآية ، مخالف لمال {[8742]} الفيء عند الشافعي ولهذا أهل عنده فلا يجوز أن تصرف صدقة في أهل الفيء ولا مال الفيء في أهل الصدقة . وأهل الصدقة عنده من لا هجرة له ولا هو من المقاتلة عن المسلمين ، وأهل الفيء ذوو الهجرة المقاتلون عن المسلمين . وسوى أبو حنيفة بين المالين ، وجوز صرف كل واحد من المالين في كل واحد من الفريقين {[8743]} . والذي يظهر من قول مالك رحمه الله أن يجوز صرف الفيء {[8744]} في أهل الصدقة ولا يجوز صرف الصدقة في أهل الفيء وهو ظاهر قول عمر رضي الله تعالى عنه : ما من أحد إلا وله حق في هذا المال حتى لو كان راعيا أو راعية بعدن .