قوله تعالى : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله } إلى قوله سبحانه : { وهم صاغرون } :
هذه الآية تقتضي أن يقاتل أهل الكتاب حتى يسلموا أو يؤدوا الجزية . وعند نزولها نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم في جهاد الروم وسار إلى تبوك {[8942]} . وقد اختلف فيها هل هي ناسخة أم لا . فقال قوم هي ناسخة لما في القرار من الترك لقتال المشركين ، وقال بعضهم هي ناسخة لقوله تعالى : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } {[8943]} لأن هذه الآية اقتضت {[8944]} أن يقتلوا ولا تؤخذ منهم جزية ، وهذه الأخرى {[8945]} اقتضت أن يقاتلوا {[8946]} إلا أن يؤدوا {[8947]} الجزية .
وذهب جماعة إلى أنها ليست بناسخة وأنها مبينة . واختلف في كيفية تبيينها ، فقيل إن قوله تعالى : { فاقتلوا المشركين } أراد به من ليس من أهل الكتاب ، وأراد في هذه الآية أهل الكتاب وقيل قوله تعالى {[8948]} : { فاقتلوا المشركين } عام للصنفين وللأحوال إلا أنه خصص من ذلك العموم بآية الجزية من أدى الجزية خاصة وهو أحسن ما يقال في ذلك {[8949]} . وقوله تعالى : { الذين لا يؤمنون بالله } هم أهل الكتاب كما فسره تعالى بعد ذلك ، وأهل الكتاب معترفون بالإيمان بالله تعالى فيحتمل هذا الإيمان ثلاثة تأويلات : أحدها : أنهم لا يؤمنون بكتاب الله وهو كما فسر تعالى بعد ذلك . والثاني : أنهم لا يؤمنون برسوله محمد صلى الله عليه وسلم لأن تصديق الرسل إيمان بالرسل . والثالث : أن منهم من يقول في الله تعالى ثالث ثلاثة وعزير ابن الله فلذلك نفى عنهم الإيمان .
وقوله تعالى : { ولا باليوم الآخر } فيه أيضا تأويلان : أحدهما : لا يخافون وعيد اليوم الآخر وإن كانوا مقرين بالثواب والعقاب . والثاني : أنهم يكذبون ما وصفه الله تعالى من أنواع العذاب .
وقوله تعالى : { ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله } فيه تأويلان : أحدهما : ما أمر الله تعالى بنسخه من شرائعهم . والثاني : ما أحله لهم وحرمه عليهم .
وقوله تعالى : { ولا يدينون دين الحق } فيه أيضا تأويلان : أحدهما : ما في التوراة والإنجيل من اتباع الرسول {[8950]} وهذا قول الكلبي . والثاني : الدخول في دين الإسلام وهو قول الجمهور .
وقوله تعالى : { من الذين أوتوا الكتاب } فيه تأويلان أيضا : أحدهما : من أبناء الذين أوتوا الكتاب . والثاني : أنهم من الذين بينهم الكتاب لأنهم في اتباعه كإتيانه .
وقوله تعالى : { حتى يعطوا الجزية } فيه تأويلان أيضا : أحدهما : حتى يدفعوا الجزية ، والثاني : حتى يضمنوها . وفي الجزية تأويلان أيضا أحدهما أنها من الأسماء المجملة ، والثاني أنها من الأسماء العامة . والجزية تؤخذ من الكفار وسميت بذلك لأنها جزاء على الكفر . وقيل هي مشتقة من الاجتزاء الذي بمعنى الكفاية ، أي أنها تكفي من يوضع ذلك فيه من المسلمين أو تجزئ عن الكافرين عصمتهم .
وقوله تعالى : { عن يد } فيه ست تأويلات : أحدها : عن غنى وقدرة . والثاني : أن يعتقدوا أن لهم في أخذها منهم يدا عليهم . والثالث : أن يريد سوق الذمي لها بيده لا مع الرسول ليكون ذلك إذلالا له . والرابع : أن يريد عن قوة منكم عليهم وقهر . والخامس : أن يريد أن ينفذوها ولا يؤخروها كما تقول بعثه يدا بيد . والسادس : أن يريد عن استسلام منهم وانقياد .
وقوله تعالى : { وهم صاغرون } فيه ثلاث تأويلات : أحدها : إذلالا مستكينون ، والثاني : أن تجري عليهم أحكام الإسلام ، والثالث : - وجاء هذا عن عكرمة – أن يكون قابضها جالسا والدافع من أهل الذمة قائما {[8951]} . وهذه الآية تعطي بدليل الخطاب ترك أخذ الجزية من غير أهل الكتاب ، وقد اختلف في ذلك ، فقيل تؤخذ من جميعهم {[8952]} وحكي عن مالك قريب منه . وقيل تؤخذ من جميعهم غير مشركي قريش {[8953]} وهو {[8954]} المروي عن مالك . وقيل تؤخذ من جميعهم ما عدا مشركي العرب ، وهو قول أبي حنيفة وإليه ذهب ابن حبيب وابن وهب . وقيل تؤخذ الجزية مما عدا أهل الكتاب وهو قول الشافعي وإليه ذهب ابن الماجشون {[8955]} . فمن ذهب إلى قول الشافعي هذا احتج بدليل خطاب الآية وبه احتج الشافعي . والحجة عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول لأمراء السرايا : " إذا لقيتم العدو فادعوهم إلى الإسلام فإن أجابوا وإلا فالجزية فإن أعطوا وإلا فقاتلوهم " {[8956]} . ولم يخص مشركا دون مشرك فرفع هذا الحديث دليل خطاب الآية وخبر الآحاد إذا عارض دليل خطاب الآية فمن أهل العلم من يقدم الحديث ومنهم من يقدم دليل الخطاب . وقد توهم أن هذه الآية في جميع الكفار وأنهم أصناف ، منهم الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر وهؤلاء غير أهل الكتاب وذلك قوله تعالى : { ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله } من صفة غير أهل الكتاب أيضا وقوله تعالى : { ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب } هو وصف أهل الكتاب . وذكروا أن ظاهر هذا يقتضي أخذ الجزية من أصناف الكفار إلا ما قام دليل {[8957]} الإجماع عليه في حق مشركي العرب . قال بعضهم وهذا القول باطل وإنما هي صفات كلها لصنف واحد وهم أهل الكتاب ولو كان على ما توهموا لكان والذين لا يدينون دين الحق فإن قيل حذف الذين وبقي المعنى على ما كان عليه قيل لهم هذا لا يجوز لما فيه من حذف الموصول وبقاء الصلة . واختلف في المجوس هل تؤخذ منهم جزية أم لا ، فمن ذهب إلى أنهم أهل كتاب – وهو يروى عن علي رضي الله تعالى عنه وهو أحد قولي الشافعي – فيرى أخذ الجزية منهم بنص القرآن ، ويروى أنه بعث فيهم نبي يقال له زرادشت {[8958]} . ومن لم يرهم أهل كتاب فجمهورهم يقول تؤخذ منهم الجزية لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " {[8959]} فيوجب أخذ الجزية منهم بالسنة ويراها قاضية على دليل خطاب الآية . ومنهم من لا يرى أخذ الجزية منهم ويقدم دليل الخطاب على ما جاء من السنة أو يتأول السنة ، وقد ذكره اللخمي {[8960]} عن ابن الماجشون وقال لا تؤخذ الجزية من مجوس العرب وتقبل من غير مجوس العرب وإليه ذهب ابن وهب قال {[8961]} وقد قبلها النبي صلى الله عليه وسلم من مجوس هجر ولم يقبلها من غيرهم {[8962]} .
وقد حكى بعضهم {[8963]} الإجماع في أن المجوس تقبل منهم الجزية ، وليس بصحيح لما قدمناه . واختلف في الكتابيين من العرب هل تؤخذ {[8964]} منهم جزية جملة أيضا ، وعند الشعبي أنهم إن كانوا قد دانوا بذلك الدين بعد نزول القرآن فلا تقبل منهم جزية وإن كانوا {[8965]} قد دانوا به قبل نزول القرآن فتقبل منهم الجزية ، وحجتنا قوله تعالى : { من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية } فعم . فأما أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى باتفاق فلا خلاف في جواز أخذ الجزية {[8966]} منهم لنص هذه الآية . وأما هل يلزمنا أخذها منهم والكف عنهم إذا بذلوها لنا أم لا فرأيت لبعض أشياخ الأندلس وحكاه عن أشياخه أن ذلك ليس بلازم لنا {[8967]} وأن الإمام مخير في ذلك ، قال والذي يدل على ذلك ما رواه أبو هريرة {[8968]} وهو قوله عليه الصلاة والسلام : " يوشك أن ينزل فيكم عيسى ابن مريم حكما مقسطا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد " {[8969]} وموضع الدليل من الحديث قوله عليه الصلاة والسلام : " ويضع الجزية " ، إذ أجمعوا أن معناه أنه لا يقبل أي لا يقبل إلا الإسلام والسيف . وعيسى عليه السلام ليس ينزل بشرعه القديم ولا بشرع جديد وإنما ينزل بتنفيذ شرع نبينا صلى الله عليه وسلم ، فلو كان قبول الجزية في شرعنا حقا علينا لما أبى عليه السلام من قبول الجزية إذا بذلت له على شروطها {[8970]} ولكنها حق لنا فلذلك لم يقبلها عليه السلام واستمر القتال على القتال حتى يدخل الناس في الإسلام . والذي عندي {[8971]} أن هذا باطل . وقد حكى جماعة من أشياخنا الإجماع على وجوب قبول الجزية منهم على شروطها المعلومة ، وأما استدلاله بالحديث فضعيف لأنه وإن كان عيسى عليه السلام إنما ينزل بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فمن شريعته أن لا يقبل عيسى الجزية من اليهود ولذلك قال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ذلك فتجب علينا نحن أن نقبل الجزية بشريعته عليه الصلاة والسلام ويجب على عيسى عليه السلام أن لا يقبلها بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم أيضا مع أن هذا الحديث حديث آحاد ودليل القرآن أقوى منه .
وقوله تعالى : { حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } هذا هو {[8972]} الدليل على قبول الجزية لأن دليل خطابه فإذا أعطوا الجزية فكفوا عنهم ونحو ذلك .
ودليل مثال هذا الخطاب قد قال به أكثر المنكرين لدليل الخطاب ، وأصر على إنكار القول به أصحاب أبي حنيفة وبعض المنكرين للمفهوم ، وقالوا هذا نطق بما قبل الغاية وسكوت عما بعد الغاية فيبقى على ما كان قبل النطق ، وتردد فيه القاضي {[8973]} وقال قد كنا نظرنا في كتب إبطال حكم الغاية فيبقى على ما كان قبل النطق {[8974]} والقول بها أصح عندنا . فمن قال بدليل خطاب هذه الآية فحسبه ذلك حجة في وجوب {[8975]} قبول الجزية والكف عند ذلك وبعد ذلك يستظهر بالحديث ومن لم يقل به فاستناده في وجوب قبول الجزية {[8976]} الأحاديث التي تكاد أن تخرج عن الحصر في أمره صلى الله عليه وسلم سراياه بقبول الجزية إذا بذلت أم كيف أن الإجماع صحيح في ذلك {[8977]} . واختلف هل يترك أهل الكفر مع أهل الإسلام في موضع واحد وإن أدوا الجزية ولأهل الإسلام قوة على إجلائهم والاستغناء عنهم كان لهم عقد صلح أم لا . فذهب جماعة إلى أنهم يتركون في جميع البلاد جزيرة العرب كانت أو غيرها وهو مذهب أبي حنيفة . وذهب بعضهم إلى أنهم يجلون {[8978]} من جميع البلاد التي للمسلمين . وذهب قوم إلى أنهم يجلون من جزيرة العرب خاصة وهو قول الشافعي قال{[8979]} ولا يمنعون من الاجتياز بها مسافرين ولا يقيمون أكثر من ثلاثة أيام . وأما مكة وحرمها فلا يدخلونها لا مقيمين ولا مجتازين ، وإن دفن بها ذمي ينبش قبره . وفي وجوب نبشه قولان . وقيل بل يجلون من كل البلاد {[8980]} التي اختطها المسلمون ولم تكن لأهل الكتاب فزل عليهم المسلمون {[8981]} وهو قول يحيى بن آدم {[8982]} .
فأما القول الأول فحجته دليل خطاب الآية لأنه يقتضي الكف عنه بأداء الجزية ، وفي الكف عنه أن لا يجلوا . وتأولوا ما جاء من الأحاديث ما يخالف ذلك . وحجة القول الثاني – وإليه ذهب الطبري – ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله عند موته : " أخرجوا المشركين من جزيرة العرب " {[8983]} ولم يقر دينين بأرض العرب . وقال ليهود خيبر " أقركم ما أقركم الله " ، وكان شطر القضاء فيهم . قال عمر فينا نحن في المسجد وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " انطلقوا بنا إلى يهود " فخرج حتى جئنا بيت المدارس فقال : " أسلموا تسلموا واعلموا أن الأرض لله ولرسوله وأني أريد أن أجليكم من هذه الأرض فمن وجد منكم بماله شيئا فليبعه وإلا فاعلموا أن الأرض لله ولرسوله " {[8984]} . قال الطبري : وإنما خص النبي صلى الله عليه وسلم جزيرة العرب بالذكر لأن الإسلام لم يكن يومئذ ظهر في غيرها ظهور قهر ، فكل بلد ظهر فيه الإسلام وجب أن يصنع فيه ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في جزيرة العرب . قال الطبري : ينبغي أن يؤجلوا في الخروج ثلاثة أيام بلياليها كالذي فعل الأئمة الأبرار عمر وغيره . وقد حكي أن منادي علي كان ينادي كل يوم : لا يثبتن بالكوفة يهودي ولا نصراني ولا مجوسي ألحقوا بالحيرة . وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا تصلح قبلتان في أرض " {[8985]} . فهذا حديث عام في كل أرض . قال فالواجب على إمام المسلمين إذا أقر {[8986]} بعض أهل الكتاب في بعض المسلمين لعمارة أو غيرها من الحاجة إليهم أن لا يدعه في حضرهم معهم أكثر من ثلاثة أيام وأن يسكنهم خارجا من مصرهم كالذي فعل عمر وعلي أن يمنعهم اتخاذ الدور والمساكن في أمصارهم ، فإن اشترى منهم مشتر في مصر من المسلمين دارا أو ابتنى مسكنا فالواجب على الإمام بيعها عليه {[8987]} . وحجة القول الأول الاعتصام {[8988]} بدليل خطاب الآية إلا في الذي جاء فيه {[8989]} نص الحديث وهي جزيرة العرب وأما القول الرابع فضعفه الطبري وقال قد جاء عن ابن عباس لا يساكنكم أهل الكتاب في أمصاركم ، فلم يخص بذلك مصر إسكانه أهل الإسلام دون غيرهم بل عم بذلك جميع أمصارهم . وقد اتفق على أن جزيرة العرب ما أخذ من بحر عبادي إن مارا إلى الساحل إلى سواحل اليمن ، إلى جدة ، إلى القلزم ، مارا إلى الصحاري ، إلى حدود العراق ، ويدخل في هذه الحدود كلها وهي مكة والمدينة واليمامة ونجد ومحالفها ووجد والطائف وخيبر من محالف المدينة . وهل يدخل اليمن في ذلك ؟ ففيه خلاف . واختلف في وادي القرى وتيما وفدك هل هي من جزيرة العرب أم لا ؟
– وقوله تعالى : { حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } :
ظاهر هذا أنه يريد الجزية التي يعطونها صلحا منهم لنا ، فأما الجزية التي{[8990]} يعطونها عنوة فليست بداخلة في الآية وإن كان يحتمل أن يريد {[8991]} بالجزية الصلحية والعنوية أي قاتلوهم حتى يدفعوها إليكم أما صلحا وأما عنوة . فإذا كان هذا فالجزيتان جميعا مقبولتان في نص القرآن ، وعلى الوجه الأول – وهو الأظهر – تكون الجزية الصلحية بنص القرآن والأخرى بالسنة الثابتة في ذلك . فأما الصلحية فلا حد لأكثرها باتفاق ، واختلف هل لأقلها حد أم لا ؟ فالجمهور على {[8992]} أنه لا حد لها وإنما هو باجتهاد الإمام ، وذهب قوم إلى أن لأقلها حدا إذا بذلوه لزم الإمام قبوله . واختلفوا في قدر ذلك ، فقال الشافعي دينار ، وقال بعض المتأخرين الذي يأتي على المذهب أن أقله ما فرضه عمر على أهل العنوة يريد أربعة دنانير وأربعين درهما وأرزاق المسلمين وضيافة ثلاثة أيام . والأظهر على لفظ الآية أنه ليس بذلك حد وإنما فيه اجتهاد الإمام ومن حضره لقوله تعالى : { حتى يعطوا الجزية } فأطلق اللفظ ولم يخص بشيء وإنما وكله إلى الاجتهاد . وأما الجزية العنوية فاختلف في قدرها على أقوال . فذهب أبو حنيفة إلى أن أكثرها وأقلها مقدار صنف أهل الجزية ثلاثة أصناف : أغنياء يؤخذ منهم ثمانية وأربعون درهما ، وأوساط يؤخذ منهم أربعة وعشرون درهما ، ومن دون ذلك يؤخذ منهم اثني عشر درهما ، ومنع من اجتهاد الإمام فيها {[8993]} وحجته أن ذلك مروي عن عمر أنه فعله في أهل السواد {[8994]} .
وذهب الشافعي إلى أنها مقدرة الأقل بدينار ولا يجوز الاقتصار على أقل منه وغير مقدرة {[8995]} الأكثر وإنما يرجع فيه إلى اجتهاد الولاة ، ودليل ذلك ما روي عن معاذ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له حين بعثه إلى اليمن : " خذ من كل حالم دينارا أو عدله من المعافر " {[8996]} وذهب القاضي أبو الحسن إلى أن حد أكثرها ما فرض عمر رضي الله تعالى عنه ولا حد لأقلها . والمشهور عن مالك أن حد أكثرها ما فرض عمر لا يزيد عليه ولا ينقص منه ، وفرض عمر في هذين القولين هو ما ذكرناه عن عمر أولا . إلا أن مالكا رأى أن توضع عنهم الضيافة إذا لم يوفى بهم العهد على وجهه . وذكر بعضهم أيضا عن مالك – وهو قول غير الأكثر – أنه لا يتقدر أكثرها ولا أقلها وأنها موكولة إلى الاجتهاد في الطرفين . وقال الثوري : اختلفت الروايات في هذا عن عمر ، فللوالي أن يأخذ أيها شاء إذا كانوا ذمة . والأظهر في هذه الأقوال كلها أيضا أن هذا على الاجتهاد فما رأى الإمام أن يلزمهم على وجه الاجتهاد والصلاح لزمهم ، وهو الظاهر على لفظ الآية إن جعلنا الجزية فيها عامة للجزيتين . وقد اختلف في الجزية هل هي عوض عن حقن الدماء أو عوض عن المسكن والفرار . فلأصحاب مالك قولان ، والأظهر من لفظ الآية أنها عوض عن حقن الدماء لأنه تعالى أمر بكف القتل عند إعطاء الجزية ، والقتال فيه إراقة الدم . وبالجزية يدفع ذلك فكأنهم بالجزية حقنوا دماءهم فهي إذن عوض عن حقن الدم {[8997]} . وقد اختلف في الشيخ الفاني هل تؤخذ منه الجزية أم لا ؟ فذهب أبو حنيفة إلى أنه ليس عليه جزية لأنه محقون الدم بنهيه عليه الصلاة والسلام عن قتل الشيوخ ، والجزية إنما تؤخذ ممن يحقن دمه . وفي المذهب أن الجزية تؤخذ منه . فعلى القول بأن الجزية عوض على المسكن خاصة فلا اعتراض فيه . وأما على القول بأنها عوض عن حقن الدم فلا يثبت في حق الشيوخ إلا بالسنة لأمره عليه الصلاة والسلام بقبول الجزية ولم يخص . فأما النساء والصبيان والمجانين فلا جزية عليهم ، والأصل في ذلك قوله تعالى : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر } فإنما أراد أن يعطي الجزية هنا من هو من أهل القتال فأما من ليس من أهل القتال فلا .
وأما العبيد فلا جزية عليهم أيضا لأن الخطاب تضمن من يبقى على حاله في الجزية فلا يباح بقتال ولا غيره ، ولا يجتمع الرق والجزية ، ولأنه مال من الأموال . وأما الرهبان فقال مالك إن كانوا من الكنائس فتضرب عليهم الجزية لأنه لم ينه عن قتلهم وإن كان من أهل الديارات فلا ، لأنه نهى عن قتالهم {[8998]} وهذا من مبتدإ حملها . فأما إن ترهب بعد أن طرأت عليه فلا تزول عنه {[8999]} وكان هذا من مالك رحمه الله تعالى إشارة إلى أن الجزية عوض عن حقن الدم . وذهب أبو حنيفة إلى أن لا جزية على الرهبان جملة . قال بعض المفسرين – بعدما ساق الأجزية على الصبيان والنساء والمجانين ورهبان الديارات : ومن يراعى أن علة الجزية الإذلال أمضاها في الجميع {[9000]} . يريد أن من رأى ذلك علة أوجب الجزية على جميع ما ذكره قبل ذلك من النساء وغيرهم . واختلف في العبد الكافر يعتقه الذمي أو مسلم هل عليه جزية أم لا على ثلاثة أقوال في المذهب : أحدها : أن عليه الجزية ، والثاني : لا جزية عليه ، والثالث : إن أعتقه كافر فعليه الجزية وإن أعتقه مسلم فلا ، وهذا إذا أعتق في بلاد الإسلام دون بلاد الحرب . والحجة لمن أوجب الجزية عموم قوله تعالى : { من الذين أوتوا الكتاب } وهذا منهم وهو حر . ويأتي القول الثاني على القول بأنها عوض عن حقن الدماء {[9001]} والفرق استحسان . واختلف في الفقير هل عليه جزية أم لا ؟ قال ابن القاسم لا ينقص أحد من أربعة دنانير كان غنيا أو فقيرا . وقال أصبغ : يحط بقدر ما يرى من حاله . وقال ابن الماجشون لا يؤخذ من الفقير شيء {[9002]} . وحجة القول الأول ما فعل عمر ولم يفرق بين غني ولا فقير . وحجة سائر الأقوال مراعاة ظاهر الآية في أن الجزية على الاجتهاد . والجزية عندنا إنما تقبل ممن كانت تحت قهر المسلمين أمامهم في بلد واحد أو بالقرب ولا يقبل ممن بعد بحيث يخاف أن يمتنعوا ، وإن خشي ذلك منهم على القرب لم تقبل إلا أن يهدم سورهم أو يصنع بهم ما يرى أنهم لا يمتنعون بعده ، وهذا كله كقوله تعالى : { وهم صاغرون } . وإذا صولح الكفار على جزية فهل يجب أن تكون مقدرة أم لا ؟ .
فيه لأصحاب الشافعي قولان : قيل تجب ، وقيل لا يجب ذكر مقدار الجزية ولكن تنزل على الأشد ، قالوا وهل يصح عقدها مؤقتا ؟ فيه قولان . ولو قال الإمام أقركم ما شئت إذا فقولان والقول بالجواز أولى ، ولو قال للذميين ما شئتم أنتم لصح . ولو حاصر الإمام قلعة ليس فيها إلا نساء فبذلن الجزية فهل يجب قبولها {[9003]} وترك استرقاقهم ؟ فيه خلاف بين الشافعية أيضا والأصح أنه لا يجب وهو الذي يقتضيه ظاهر الآية لأن المأمور بقتالهم إنما هم الرجال المقاتلون وأما وجوب ذكر مقدار الجزية فليس في الآية ما يدل فيه على نفي ولا إثبات . وظاهر جوازها على الإطلاق من غير تحديد . وإذا صولحوا {[9004]} على الجزية فمتى تجب عليهم {[9005]} ؟ اختلف في ذلك ، فقيل {[9006]} إنها تجب عليهم بأول ما تعقد لهم الذمة ثم بعد ذلك عند أول كل قول وهو مذهب أبي حنيفة {[9007]} وقيل إنها لا تجب إلا بآخر الحول وهو مذهب الشافعي {[9008]} . وليس عن مالك وأصحابه نص في ذلك والظاهر من مذهبه أنها تجب بآخر الحول . وهذا الخلاف يتركب على الخلاف في الجزية هل هي عوض عن حقن الدماء أو عن القرار {[9009]} . فمن رآها عوض عن القرار والمسكن لم يوجب شيئا إلا بآخر الحول ، ومن رآها عوض عن حقن الدم أوجبها بأول الحول . واستدل بعضهم على وجوبها بأول الحول بقوله تعالى : { حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } وقال : إن لفظ الإعطاء إذا أطلق الظاهر فيه قبض العطية دون تأخيرها ، ولو كان احتماله للوجهين احتمالا واحدا لكان قوله عز وجل : { عن يد } دليلا على أن المراد به القبض ، لأن من قال أعطيت فلانا عن يد يفهم منه تعجيل العطية ودفعها إلى المعطى قال : وهذا الذي يأتي على مذهب مالك . ورد غيره عليه استدلاله بالآية وقال : لا يصح ذلك لأنه تعالى عم الجزية {[9010]} ولم يخص شيئا دون شيء فوجب بحق الظاهر أن تكون كلها معجلة فيكون معنى الإعطاء القبض والدفع أو تكون كلها مؤجلة فيكون الإعطاء بمعنى الإيجاب دون القبض والدفع كما هو في قوله تعالى : { إنا أعطيناك الكوثر ( 1 ) } [ الكوثر : 1 ] فلما بطل أن تكون كلها مؤجلة لا ينتجز شيء منها إذ لا يصح في عقل عاقل أن يقول إن ظاهر لفظ الإعطاء قبض بعض {[9011]} المعطى وتأخير بعضه . وإذا لم يصح ذلك بقوله تعالى { عن يد } لا دليل فيه وإنما معناه عن غلبة وقهر أو إنعام أو أن يدفعوه بأيديهم ولا يرسلوها إذلالا لهم . قال فالآية حجة على ضدها قال وهذا الخلاف في الجزية الصلحية داخل في الجزية العنوية والذي رد عليه استدلاله بالآية قد زعم أن الخلاف إنما هو في الصلحية خاصة ، وليس كذلك ومتى منع الذمي الجزية رجع الأمر بالقتال على أوله وهو مقتضى الآية ، ولئن أسلم بعد التزام الجزية ووجد بها عليه إما بأوله أو بآخره . فذهب مالك وأبو حنيفة إلى أنها تسقط عنه بدليل قوله تعالى : { حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } ولا خلاف أنهم إذا أسلموا فلا يؤدون الجزية عن يد وهم صاغرون . وذهب الشافعي إلى أنها لا تسقط ويؤخذ بها بعد إسلامه لكنه لا يرى أنها تؤخذ منه على الوجه الذي ذكره الله تعالى وإنما يقول إنها دين عليه وجب بسبب سابق كسائر الديون . وأما سقوطها عنه فبما يستقبل بعد إسلامهم فلا خلاف فيه . قال أبو الحسن : وإذا كانت الجزية على مذهب الشافعي دينا وجب على الذمي بسبب دفع القتل عنه أو بسبب السكنى ، فهي طاعة مأمور بها الذمي ، والذمي قد أطاع الله تعالى بدفعها ولكن ثواب طاعتهم محبط كثواب الطاعات كلها . وأبو حنيفة لا يرى الجزية واجبة على الذمي ولا طاعة بل يقول {[9012]} إنها تقام عليه عقوبة له وزجرا عن الكفر وذلك لا يكون طاعة في حقه وإنما هو طاعة في حقنا {[9013]} .