قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا } :
اختلف في وصف الله تعالى لهم {[8909]} بالنجس لم هو . فقال قتادة وغيره لأنهم {[8910]} جنب إذ غسلهم {[8911]} من الجنابة ليس بغسل . وقال ابن عباس وغيره بل معنى {[8912]} الشرك {[8913]} الذي نجسهم {[8914]} كنجاسة الخمر {[8915]} . ومن أهل العلم من صار إلى الحكم بنجاستهم حقيقة حتى ينجسوا الماء بملاقاتهم له {[8916]} . وقال آخرون لم يرد الله تعالى نجاستهم لكن جعلهم كالنجاسة في المنع {[8917]} من قرب {[8918]} المسجد كالمنع في ذلك من النجاسات ، فالمراد بذلك التشبيه {[8919]} واختلف في إيجاب الغسل على المشرك إذا أسلم ، فالجمهور {[8920]} من أهل {[8921]} المذهب على إيجاب الغسل عليه وهذا القول مبني على قول من يرى أن المشرك إنما وصفه الله تعالى بالنجاسة لجنابته . وذهب ابن عبد الحكم إلى {[8922]} أنه لا يجب عليه الغسل وهذا مبني على أن وصفه بالنجاسة إنما هو {[8923]} لمعنى الشرك لا لمعنى الجنابة وروي أيضا عن مالك وابن القاسم مثله {[8924]} .
واختلف فيمن صافح مشركا هل يتوضأ أم لا ؟ فذهب الحسن إلى أنه يتوضأ – يريد والله تعالى أعلم الوضوء اللغوي – والجمهور على أن ذلك لا يلزم إلا أن تتعلق به نجاسة . وكان الحسن لما وصفهم الله تعالى بالنجاسة حملهم على النجاسة وإن لم تظهر منهم . واختلف في المشركين من هم ، فقيل الوثنيون خاصة {[8925]} ، وقيل هم الوثنيون وغيرهم من أهل الكتاب ومن الكفار {[8926]} . قال بعضهم وإنما سمي أهل الكتاب مشركين وإن لم يشركوا لأن من كفر بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فقد نسب ما لا يكون إلا من الله تعالى إلى غير الله تعالى فأشرك معه غيره . وفائدة الخلاف في هذا تتبين في صفة {[8927]} مناكحهم {[8928]} وذبائحهم وغير ذلك . واختلف هل هذه الآية ناسخة {[8929]} لما كان صلى الله عليه وسلم صالح به المشركين أن لا يمنع من البيت أحد أم لا على قولين {[8930]} .
وقد اختلف في دخول أهل الكتاب وغير أهل الكتاب من الكفار المساجد . فذهب مالك رحمه الله تعالى إلى أنه يمنعون من دخول {[8931]} المسجد الحرام وغيره من المساجد ، فحمل المشركين على العموم في الكتابيين وغيرهم أو على غير أهل الكتاب ، وقاس عليهم أهل الكتاب وقاس على المسجد الحرام سواه . وتأول الآية التي قبل هذه : { ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر } ، وقوله تعالى : { إنما يعمر مساجد الله } ، وبمثل هذا كتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله واحتج في كتابه بهذه الآية . ويؤكد هذا القول قوله تعالى : { في بيوت أذن الله أن ترفع } [ النور : 36 ] ، وقوله تعالى : { ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب } [ الحج : 32 ] وذهب الشافعي إلى أن الكفار كلهم يمنعون من دخول المسجد الحرام خاصة ولا يمنعون من سواه ، فحمل المشركين على العموم أو على {[8932]} الخصوص وقاس ولم يقس على المسجد الحرام سواه ولا تأول الآية التي قبل هذه الآية فأجاز {[8933]} دخول أهل الكتاب وغيرهم فيما عدا المسجد الحرام .
ومن حجته أيضا ربط ثمامة بن أثال في المسجد . وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا يدخل المشركون الذين ليسوا بأهل كتاب في المسجد الحرام خاصة فقصر المشركين في الآية على من ليس له كتاب كعبدة الأوثان ولم يقس على المسجد الحرام سواه فأباح دخول أهل الكتاب في المسجد الحرام وغيره ودخول عبدة الأوثان في سائر المساجد . وذهب جابر بن عبد الله {[8934]} وقتادة إلى أنه لا يقرب المسجد الحرام مشرك إلا أن يكون صاحب جزية أو عبدا لمسلم فقصر المشركين على ما عدا هذين النوعين ولا يعلم لهما دليل على هذا {[8935]} . وذهب قوم إلى أنه لا يمنع من دخول المسجد الحرام ولا غيره مشرك كتابيا كان أو غير كتابي ونسبه بعضهم إلى أبي حنيفة وقال الحجة عليه قوله تعالى : { فلا يقربوا المسجد الحرام } [ براءة : 28 ] ، قال : وإن قال أبو حنيفة معناه لا يقربوه للطواف خاصة والحجة أنه يحمل على ظاهره ، وظاهره العموم حتى يدل دليل على التخصيص .
واختلف في المشركين هل يدخلون الحرم أم لا . فالجمهور على أنهم لا يمنعون لأن الله تعالى إنما قصر النهي عن المسجد الحرام خاصة فغاية هذا أن يقاس عليه سائر المساجد . وذهب عطاء إلى {[8936]} أنهم يمنعون {[8937]} من دخوله وقال وصف الله تعالى المسجد بالحرام في منع القرب يقتضي منعه من جميع الحرم {[8938]} . وقوله تعالى : { فلا يقربوا المسجد الحرام } مقتضاه الأمر للمسلمين لمنعهم من قرب المسجد الحرام . وقوله تعالى : { بعد عامهم هذا } يريد عام حج أبي بكر وكان عام تسعة من الهجرة . وقوله : { وإن خفتم عيلة } معناه أن المسلمين لما منعوا المشركين من الموسم وهم كانوا يجلبون الأطعمة والتجارة خافوا على أنفسهم من العيلة – وهي الفقر – فوعدهم الله تعالى بأنه يغنيهم من فضله {[8939]} . قال الضحاك يفتح عليهم باب أخذ {[8940]} الجزية من أهل الذمة بقوله تعالى : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر } وقال عكرمة أغناهم بإدرار المطر عليهم {[8941]} .