قوله تعالى : { ومنهم من عاهد الله } إلى قوله : { فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون ( 77 ) } :
هذه الآية نزلت في ثعلبة بن حاطب الأنصاري{[9213]} قيل وفي معتب بن قشير{[9214]} وذلك أن ثعلبة أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يدعو له أن يجعل له مالا . قال : فلو كان لي مال لقضيت حقوقه وفعلت به الخير . ولم يزل به حتى دعا له . فاتخذ غنما . فنمت له حتى ضاقت بها المدينة ، فتنحى عن المدينة ، وكثرت غنمه فكان لا يصلي الجمعة ، ثم كثرت حتى تنحى بعيدا ، فترك الصلاة ونجم نفاقه ونزل خلال ذلك فرض الزكاة . فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المتصدقين فلما بلغوا ثعلبة قال : هذه أخت الجزية ثم قال دعوني حتى أرى رأي . فلما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك قال : " ويحه " ثلاثا . ونزلت الآية . وبلغ ذلك ثعلبة ، فخرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرغب أن يؤدي زكاته فأعرض عنه وقال : إن الله تعالى أمرني أن لا آخذ زكاتك . فبقي كذلك حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ورد ثعلبة على أبي بكر ثم على عمر ثم على عثمان يرغب إلى كل واحد منهم أن يأخذ منه الزكاة . فكلهم يرد ذلك اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وبقي كذلك ثعلبة حتى هلك في مدة عثمان {[9215]} فقوله تعالى : { فأعقبهم نفاقا } نص في المعاقبة على الذنب بما هو أشد منه ، والتقدير فأعقبهم الله نفاقا . وقيل التقدير فأعقبهم البخل نفاقا .
وقوله تعالى : { إلى يوم يلقونه } : يقتضي موتهم على النفاق . ولذلك لم يقبل رجوع ثعلبة لشهادة القرآن عليه بالنفاق إلى يوم {[9216]} الملاقاة . وقوله تعالى : { نفاقا } : يحتمل أن يريد نفاق معصية ويحتمل أن يريد نفاق كفر .
فإذا قيل إن المراد به نفاق كفر فإنما أقر ثعلبة على ذلك كما أقر سائر المنافقين . وإذا قلنا إنه نفاق معصية {[9217]} فإنما أقر ثعلبة على ذلك ولم تقبل منه الزكاة عقابا له وهذا خاص بثعلبة . ومن فعل ذلك الوقت مثل فعله أن لا يجوز أن يعاقب اليوم أحد في مثل ذلك بأن لا تؤخذ منه الزكاة فتؤخذ منه كرها وإن كان قد جاء عن عمر بن عبد العزيز أن عاملا كتب إليه أن فلانا يمنع الزكاة . فكتب إليه عمر أن دعه واجعل عقوبته أن لا يؤدي الزكاة مع المسلمين لما يلحقه من المقت في ذلك {[9218]} . وظاهر هذا من عمر أن العقاب عام فيمن فعل فعل ثعلبة ، والصحيح ما قدمته . وإنما كان ذلك أيضا في ثعلبة لقوله تعالى : { إلى يوم يلقونه } فأخبر أن النفاق لا يزول عنه إلى يوم يلقاه ونفاقه إنما كان يمنع الزكاة فلم تقبل منه الزكاة فتبقى عليه تلك القسمة إلى أن يلقى الله عز وجل . وغير ثعلبة لم يقل فيه ذلك فلا يكون حكمه حكم ذلك الحكم . وذكر بعضهم عن ابن عباس في نزول الآية غير ما تقدم . قال{[9219]} وذلك أن حاطب بن أبي بلتعة{[9220]} لما أبطأ عليه ماله بالشام حلف في مجلس من مجالس الأنصار إذا سلم ذلك لأتصدقن منه ولأصلن منه . فلما سلم بخل بذلك {[9221]} .
وقوله تعالى : { بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون } يقوم من هذا أن إخلاف {[9222]} الوعد والكذب نفاق {[9223]} . وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يعضد ذلك . قال : " ثلاثة من كن فيه كان منافقا خالصا : إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا أؤتمن خان " {[9224]} وجاء في بعض الأحاديث زيادة . وروي أن عمرو بن العاص لما احتضر قال : زوجوا فلانا فإني قد وعدته ، لا ألقى الله بثلث النفاق {[9225]} وإلى هذا ذهب جماعة كثيرة من أهل العلم أن هذه الخصال نفاق ومن اتصف بها فهو منافق إلى يوم القيامة {[9226]} وذهب قوم إلى أنها ليست بنفاق . فقال عطاء بن أبي رباح : قد فعل هذه الخلال إخوة يوسف ولم يكونوا منافقين بل كانوا أنبياء . وهذه الأحاديث التي هي في عصر النبي صلى الله عليه وسلم للذين شهد الله تعالى عليهم ، وهذه الخصال في سائر الأمة معاص باتفاق {[9227]} وذكر الطبري أن الحسن رجع إلى هذا . والقول الأول أظهر لأن الله تعالى قد قال : { نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه } أي أعقبوا بالنفاق منعهم هذه الأشياء ، فمن كانت فيه هذه الأشياء فهو منافق . وهذه الآية على ما ذكر ابن لبابة قد احتج بها بعضهم لمذهب مالك في أن الصدقة لا يلزم الحالف بها في يمين ، فلا يحكم بها كانت لمعين أو غير معين اختلافا لمن رأى الحكم بذلك جملة ، يريد لأن الذي عهد الله تعالى على الصدقة لم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم في ماله بشيء حين حنث . فهذا وجه الحجة وهو احتجاج ضعيف لما قدمناه من معنى الآية . وقال أبو الحسن : استدل به قوم على أن من حلف أن فعل كذا فله عليه كذا أنه يلزمه . وظاهره لا يدل عليه لأنه ليس بنذر {[9228]} .