/م120
وآخر الآيات من هذه السورة تتحدث عن التوحيد «التوحيد المعرفي والتوحيد الأفعالي ،وتوحيد العبادة » كما تحدثت الآيات الأُولى من هذه السورة عن التوحيد أيضاً .
هذه الآيةفي الحقيقةتشير إلى ثلاث شعب من التوحيد ،توحيد علم الله أوّلا ،فغيب السّماوات والأرض خاص بالله وهو المطّلع عليها جميعاً ( ولله غيب السّماوات والأرض ) .
أمّا سواه فعلمه محدود ،وفي الوقت ذاته فإنّ هذا العلم ناشئ من التعليم الإِلهي ،فعلى هذا فإنّ العلم غير المحدود ،والعلم الذاتي بالنسبة لجميع ما في السموات والأرض مخصوص بذات الله المقدسة .
ومن جهة ثانية فإنّ أزمّة جميع الأفعال مرهونة بقدرته ( وإليه يرجع الأمر كله ) ...وهذه مرحلة توحيد الأفعال .
ثمّ تستنتج الآية أنّه إذا علمت أنّ الإِحاطة والعلم غير المحدود والقدرة التي لا تنتهي ...جميعها مخصوص بذات الله المقدّسة ( فاعبده وتوكل عليه ) وهذه مرحلة توحيد العبادة .
فينبغي اجتناب العصيان والعناد والطغيان ( وما الله بغافل عمّا تعملون ) .
ملاحظات
1علم الغيب خاص بالله ...
كما تحدثنا بالتفصيل في تفسير الآية ( 188 ) من سورة الأعراف ،وفي تفسير الآية ( 50 ) من سورة الأنعام ،أنه لا مجال للتردد في أن الإِطلاع على الأسرار الخفية أو الأسرار الماضية والآتية كله خاص بالله ...والآيات المختلفة من القرآن تؤكّد هذه الحقيقة وتؤيدها أيضاً ...إِنّه ليس كمثله شيء وهو متفرد بهذه الصفة .
وإذا وجدنا في قسم من آيات القرآن بيان أنّ الأنبياء قد يعلمون بعض الأُمور الغيبية ،أو قرأنا في بعض الآيات أو الرّوايات الكثيرة أنّ النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم )والإِمام عليّاً والأئمة المعصومين( عليهم السلام ) قد يخبرون عمّا يجري في المستقبل من حوادث ويبيّنون أسراراً خفيّة منها ،فينبغي أن نعرف أن كل ذلك بتعليم الله سبحانه .
فهو سبحانه حيث يجد المصلحة يطلع عباده وأولياءه على قسم من أسرار الغيب ،ولكن هذا العلم لا هو علم ذاتي ولا غير محدود ،بل هو من تعليم الله وهو محدود بمقدار ما يريده الله .
وبهذا البيان تتّضح الإِجابة على المنتقدين لعقيدة الشيعة في مجال علم الغيب حيث يرون أنّ الأنبياء والأئمة( عليهم السلام ) يعلمون الغيب .
وليس الإِطلاع على علم الغيب من قبل الله خاصاً بالأنبياء أو الأئمّة فقد يطلع الله غير النّبي والأئمّة على غيبه أيضاً ...فنحن نقرأ في قصّة أُم موسى في القرآن أنّ الله قال لها: ( ولا تخافي ولا تحزني إنّا رادّوه إِليك وجاعلوه من المرسلين ){[1838]} .
وقد يطلع الله لضرورة الحياةأحياناًالطيور والحيوانات على الأسرار الخفيّة وحتى على المستقبل البعيد نسبيّاً ممّا يصعب علينا تصوّره وبهذا الترتيب قد تكون بعض المسائل التي نحسبها غيباً ،هذه المسائل نفسها بالنسبة للطيور أو الحيوانات لا تعد من الغيب .
2العبادة لله وحده
في الآية المتقدمة دليل لطيف على أنّ العبادة لله وحده ،وهو أنّه لو كانت العبادة من أجل العظمة وصفات الجمال ،والجلال فهذه الصفات قبل كل شيء موجودة في الله ،وأمّا الآخرون فلا شيء بالنسبة إِليه .وأكبر دليل على عظمة الله علمه الواسع غير المحدود وقدرته اللامتناهية ،وقد أشارت الآية الآنفة إلى أنّهما مختصّان بالله .
وإذا كانت العبادة لأجل الالتجاءفي حلّ المشاكلإلى المعبود ...فإنّ مثل هذا العمل جدير بمن هو عليم بجميع حاجات العباد وأسرارهم الخفيّة .وما يغيب عليهم ،وهو قادر على إِجابة دعوتهم ،وبالنتيجة فإنّ توحيد الصفات يكون سبباً لتوحيد العبادة ( لاحظوا بدقّة ) .
3قال بعض المفسّرين: إِنّ سير الإِنسان في طريق عبودية الله ،لُخِّصَ كلّه في جملتين في هذه الآية ( فاعبده وتوكل عليه ) لأنّ العبادة سواء كانت عبادة جسمانية كالعبادة العامّة ،أو عبادة روحانية كالتفكّر في خلق الله ونظام أسرار الوجود ،هي بداية هذا السير .
والتوكّل الذي يعني الالتجاء المطلق إلى الله وإِيداع جميع الأشياء بيده ،بحيث يعدّ نوعاً من «الفناء في الله » هو آخر نقطة من هذا السير .
وفي جميع هذا المسير من بدايته حتى نهايته يوجههم إلى حقيقة توحيد الصفات ،ويعين السائرين في هذا المسير ويدعوهم إلى البحث المقرون بالعشق لساحته .
اللّهم ألهمنا معرفتك بصفات جلالك وجمالك .
وألهمنا أن نتحرك إِليك بعرفان .
اللّهم وفقنا لأنّ نعبدَك مخلصين ونتوكل عليك عاشقين .