والثّالث من الذنوب: إِنهم تركوا طاعة الله ومالوا لكل جبار عنيد ( واتبعوا كل جبار عنيد ) .
فأيّ ذنب أعظم من هذه الذنوب: ترك الإِيمان ،ومخالفة الأنبياء ،والخضوع لطاعة كل جبار عنيد .
و«الجبار » يطلق على من يضرب ويقتل ويدمر من منطلق الغضب ولا يتبع أمر العقل ،وبتعبير آخر هو من يُجبر سواه على أتباعه ويريد أن يغطي نقصه بادعاء العظمة والتكبر الظاهري .
و «العنيد » هو من يخالف الحق والحقيقة أكثر ممّا ينبغي ،ولا يرضخ للحق أبداً .
هاتان الصفتان تتجلّيان في الطواغيت والمستكبرين في كل عصر وزمان ،الذين لا يستمعون لكلام الحق أبداً ويعمدون إلى من يخالفهم بإنزال أشد أنواع العقاب به بلا رحمة .
هنا يَرِدُ سؤال: إذا كان الجبار يعطي هذا المعنى فلماذا ذُكرت هذه الصفة لله ،كما في سورة الحشر الآية ( 23 ) وسائر المصادر الإِسلامية .
والجواب هو أنّ «الجبار »كما أشرنا آنفاًمشتق إمّا من «الجبر » بمعنى القوّة والقهر والغلبة ،أومن مادة «الجبران » ومعناه: إِزالة النقص من شيء .
ولكن «الجبار » سواء كان بالمعني الأوّل أو الثّاني فهو يستعمل بشكليه ،وقد يراد به الذم إذا حاول الإِنسان تجاوز النقص الذي فيه باستعلائه على الغير وتكبره وبالإِدعاءات الخاطئة ،أو أنّه يحاول أن يجبر غيره على أن يكون تحت طاعته ورغبته ،فيكون الأخير ذليلا لأمره .
هذا المعنى ورد في كثير من آيات القرآن الكريم ،وأحياناً تقترن معه صفات ذميمة أُخرى ،كالآية المتقدمة التي اقترنت مع كلمة «عنيد » وفي الآية ( 32 ) من سورة مريم نقرأ على لسان عيسى بن مريم رسول الله ( ولم يجعلني جباراً شقياً )كما نقرأ على لسان بني إِسرائيل في خطابهم لموسى( عليه السلام ) في من سكن بيت المقدس من الظالمين حيث ورد في الآية ( 22 ) من سورة المائدة ( قالوا إِن فيها قوماً جبارين ) .
ولكن قد تأتي كلمة «الجبار » من هذين الجذرين «الجبر » و«الجبران » وهي بمعنى المدح ،وتطلق على من يسدّ حاجات الناس ويرفع نقصانهم ويربط العظام المتكسرة ،أو أن تكون له قدرة وافرة بحيث يكون الغير خاضعاً لقدرته ،دون أن يظلم أحداً أو يستغل قدرته ليسيء الاستفادة منها ،ولذلك حين تكون كلمة الجبار بهذا المعنى فقد تقترن بصفات مدح أُخرى ،كما نقرأ في سورة الحشر الآية ( 23 ) ( الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر ) وواضح أن صفات كالقدوس والسلام والمؤمن لا تنسجم مع «الجبار » بمعنى الظالم أو «المتكبر » بمعنى من يرى نفسه أكبر من غيره ،وهذا التعبير يدل على أنّ المراد هنا من «الجبار » هو المعنى الثّاني .
ولكن حيث أنّ البعض فسّروا «الجبار » ببعض معانيه دون الالتفات إلى معانيه المتعددة في اللغة ،تصوّروا أنّ استعمال هذا اللفظ غير صحيح في شأن الله ،وكذلك في ما يخصّ لفظ «المتكبر » ولكن بالرجوع إلى جذورهما اللغوية الأصيلة يرتفع الإشكال{[1782]} .
/خ60