وبعد هذا كلّه ومن أجل البرهان على صدق دعوته ،وبيان المعاجز الإلهية التي دونها قدرة الإنسان جاءهم بالناقة التي هي آية من آيات الله وقال: ( ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية ) فاتركوها وذروها تأكل في أرض الله ( ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم ) .
ناقة صالح:
«النّاقة » في اللغة هي اُنثى الجمل ،وهي الآية الآنفة في آيات أُخرى أُضيفت
إلى لفظ الجلالة «الله »{[1784]} وهذه الإضافة تدل على أنّ هذه الناقة لها خصائص معينة ،ومع الالتفات إلى ما عبّر عنها في الآية المتقدمة بأنّها «آية » وعلامة إلهية ودليل على الحقانيّة ،يتّضح أنّها لم تكن ناقة عادية ،بل كانت خارقة للعادة من جهة أو جهات متعددة!.
ولكن لم ترد في القرآن خصائص هذه الناقة بشكل مفصّل ،غاية ما في الأمر أننا نعرف بأنّها لم تكن ناقة عادية كالنوق الأُخريات ،والشيء الوحيد المذكور عنها في القرآنوفي موردين فحسبأن صالحاً أخبر قومه أن يتقاسموا ماءهم سهمين: سهم لهم وسهم للناقة ،فلهم شرب يوم منه ولها شرب يوم آخر ( قال هذه ناقة الله لها شرب ولكم شرب يوم معلوم ){[1785]} كما جاء في سورة القمر أيضاً ( ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر ){[1786]} .
وفي سورة الشمس إشارة مختصرة إليها أيضاً ،حيث يقول سبحانه: ( فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها ){[1787]} .
ولكن لم يتّضح كيف كان تقسيم الماء خارقاً للعادة ؟
هناك احتمالان:
الأوّل: إنّ الناقة كانت تشرب ماءً كثيراً بحيث تأتي على ماء «النبع » كله .
والثاني: إنّه حين كانت ترد الماء لا تجرؤ الحيوانات الأُخرى على الورود إلى الماء معها .
أمّا كيف كانت هذه الناقة تستفيد من جميع الماء ؟فيوجه هذا الاحتمال بأنّ ماء القرية كان قليلاً كماء القرى التي ليس فيها أكثر من عين ماء واحدة ،وأهل القرية مجبورون على أن يدخروا الماء تمام اليوم في حفرة خاصّة ليجتمع الماء في العين مرّة أُخرى .
ولكن في جزء آخر من سورة الشعراء يتجلّى لنا أنّ ثمود لم يعيشوا في منطقة قليلة الماء ،بل كانت لهم غابات وعيون ونخيل ومزارع حيث تقول الآيات: ( أتتركون في ما ههنا آمنين ،في جنات وعيون ،وزروع ونخل طلعها هضيم ){[1788]} .
وعلى كل حال فإنّ القرآن ذكر قصّة ناقة صالح بشكل مجمل غير أنّنا نقرأ في روايات كثيرة عن مصادر الشيعة وأهل السنة أيضاً ،أنّ هذه الناقة خرجت من قلب الجبل ،ولها خصائص أُخرى ليس هنا مجال سردها .
فعلى هذا ،إِنّ كان المقصود من قولهم: ( ما جئتنا ببيّنة ) هو نفي الدليل العقلي ،فكلامهم هذا غير صحيح قطعاً .وإذا كان المقصود هو نفي المعجزة ،فإِنّ هذا الإدعاء لا يحتاج إلى معجزة .وعلى كل حال فإِنّ قولهم: ( وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك ) دليل على لجاجتهم ،لأنّ الإِنسان العاقل والباحث عن الحقيقة يتقبل الكلام الحق من أيّ كان .
وخصوصاً هذه الجملة ( إِنّ نقولُ إلاّ اعتراك بعض آلهتنا بسوء ) فإِنّهم يتهمونه بالجنون على أثر غضب آلهتهم !فإِنّ هذا الكلام منهم دليل على خرافة منطقهم ،وخرافة عبادة الأصنام !
فالحجارة والأخشاب التي ليس فيها روح ولا شعور والتي تحتاج إلى حماية من الإنسان نفسه ،كيف تستطيع أن تسلب العقل والشعور من الإِنسان العاقل ؟!
أضف إلى ذلك ،ما دليلهم على جنون هود إلاّ أنّه كسر طوق «السنة المتبعة
عندهم » وكان معارضاً للسنن والآداب الخرافية في محيطه ،فإذا كان هذا هو الجنون فينبغي أن نعدّ جميع المصلحين والثائرين على الأساليب الخاطئة مجانين .
وليس هذا جديداً ،فالتاريخ السالف والمعاصر مليءٌ بنسبة الجنون إلى الاشخاص الثائرين على الخرافات والعادات السيئة والمواجهين للإِستعمار ،والنافضين أثواب الأسر .
على كل حال ،فإِنّ على هود أن يردّ على هؤلاء الضالّين اللجوجين رداً مقروناً بالمنطق ،من منطلق القوّة أيضاً ..يقول القرآن في جواب هود لهم ( قال إِنّي أشهد الله واشهدوا أنّي بريءٌ ممّا تشركون ) .
يشير بذلك إلى أنّ الأصنام إذا كانت لها القدرة فاطلبوا منها هلاكي وموتي لمحاربتي لها علناً فعلام تسكت هذه الأصنام ؟ومإذا تنتظر بي ؟
ثمّ يضيف أنّه ليست الأصنام وحدها لا تقدر على شيء ،فأنتم مع هذا العدد الهائل لا تقدرون على شيء ،فإذا كنتم قادرين ( فكيدوني جميعاً ثمّ لا تُنظرون ) .
فأنا لا تردعني كثرتكم ولا أعدها شيئاً ،ولا أكترث بقوتكم وقدرتكم أبداً ،وأنتم المتعطشون لدمي ولديكم مختلف القدرات ،إلاّ أنني واثق بقدرة فوق كل القدرات ،و ( أِنّي توكلت على الله ربّي وربّكم ) .
وهذا دليل على أنّني لا أقول إلاّ الحق والصدق ،وأن قلبي مرتبط بعالم آخر ،فلو فكرتم جيداً لكان هذا وحده معجزاً حيث ينهض إِنسان مفرد وحيد بوجه الخرافات والعقائد الفاسدة في مجتمع قوي ومتعصب ،لكنّه في الوقت ذاته لا يشعر في نفسه بالخوف منهم ،ولا يستطيع الأعداء أن يقفوا بوجهه !ثمّ يضيف: لستم وحدكم في قبضة الله ،فإِنّه ( ما من دابة إلاّ هو آخذ بناصيتها ) ،فما لم يأذن به الله ،لا يستطيع أحد أن يفعل شيئاً .
ولكن اعلموا أيضاً أنّ ربّي القدير ليس كالأشخاص المقتدرين الذين يستخدمون قدرتهم للهوي واللعب والأنانية وفي غير طريق الحق ،بل هو الله الذي لا يفعل إلاّ الحكمة والعدل ( إِنّ ربّي على صراط مستقيم ) .
ملاحظتان
الأُولى: إِنّ «الناصية » في اللغة معناها الشعر المسترسل على الجبهة ،وهي مشتقة من «نصا » ومعناها الاتصال والارتباط ،وأخذ بناصية فلان «كناية عن القهر والتسلط عليه » فما ورد في الجملة السابقة من الآية من قول الحق سبحانه: ( ما من دابة إلاّ هو آخذ بناصيتها ) إشارة إلى قدرته القاهرة على جميع الأشياء بحيث لا شيء في الوجود له طاقة المقاومة قبال هذه القدرة ،لأنّ من أحكم الإِمساك على شعر مقدم الرأس من الإِنسان أو أي حيوان آخر ،فإِنّه يُسلب منه القدرة على المقاومة عادة .
والغرض من هذه العبارة أنّ المستكبرين المغترين وعبدة الأوثان والظالمين الباحثين عن السلطة لا يتصوروا أنّه إذا أخلي لهم الميدان لعدّة أيّام فذلك دليل على قدرتهم على المقاومة أمام قدرة الله ،فعليهم أن يلتفتوا إلى هذه الحقيقة وأن ينزلوا من مركب غرورهم .
الثّانية: إِنّ جملة ( ربّي على صراط مستقيم ) من أروع التعابير في الحكاية عن قدرة الله المقترنة بعدله ،لأنّ المقتدرين في الغالب ظالمون ومتجاوزون للحدود ،ولكن الله سبحانه مع قدرته التي لا نهاية لها فهو دائماً على صراط مستقيم ،وجادة صافية ونظم وحساب ودقة !.
كما ينبغي الانتباه إلى هذه المسألة الدقيقة ،وهي أنّ كلام هود( عليه السلام ) للمشركين كان يبيّن هذه الحقيقة ،وهي أنّ الأعداء مهما لجوا في عنادهم وزادوا من لجاجتهم فإِنّ القائد الحق ينبغي أن يزيد من استقامته !فكما أن قوم هود خوّفوه بشدّة من آلهتهم و «أوثانهم » ،فإِنّ هوداً في المقابل أنذرهم بنحو أشدّ من قدرة الله القاهرة !
ثمّ أنّ هود قال لقومه في آخر كلامه معهم كما تحكيه الآية ( فإِنّ تولّوا فقد بلغتكم ما أُرسلت به إِليكم ) .
إِشارة إلى أن لا يتصوروا أنّ هوداً سيتراجع إِن لم يستجيبوا لدعوته ،فإِنّه أدى واجبه ووظيفته ،وأداء الواجب انتصار بحدّ ذاته حتى لو لم تقبل دعوته ،وهذا درس لجميع القادة الحقيقيين وأئمة طريق الحق ألاّ يحسّوا أبداً بالتعب والقلق من أعمالهم ،وإِن لم يقبل الناس دعوتهم .
وكما هدد القوم هوداً ،فإنّه هددهم بأشد من تهديدهم ،وقال: إِن لم تستجيبوا لدعوتي فإِنّ الله سيبيدكم في القريب العاجل ( ويستخلف ربّي قوماً غيركم ) .
هذه سنة الله في خلقه وقانونه العام ،إِنّه متى كان قوم غير لائقين لاستجابة الدّعوة والهداية والنعم الأُخرى التي أنعمها عليهم فإِنّه سيبعدهم ويستخلف قوماً لائقين بمكانهم ( إِنّ ربّي على كل شيء حفيظ ) .
فلا تفوته الفرصة ،ولا يهمل أنبياءه ومحبيه ،ولا يعزب عنه مثقال ذرة من حساب الآخرين بل هو عالم بكل شيء وقادر على كل شيء .