التّفسير
المعقّبات الغيبية !
علمنا في الآيات السابقة أنّ الله بما أنّه عالم الغيب والشهادة فإنّه يعلم أسرار الناس وخفاياهم ،وتضيف هذه الآية أنّه مع حفظ وحراسة الله لعبادة فإنّ ( له معقّبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله ){[1921]} .
ولكي لا يتصوّر أحد أنّ هذا الحفظ بدون شروط وينغمِسُ في المزلاّت ،أو يرتكب الذنوب الموجبة للعقاب ،ومع كلّ ذلك ينتظر من الله أو الملائكة أن يحفظوه ،يعلّل القرآن ذلك بقوله: ( إنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم ) .
وكي لا يتبادر إلى الأذهان أنّه مع وجود الملائكة الحافظة فأيّ معنى للعذاب أو الجزاء ؟هنا تضيف الآية ( وإذا أراد الله بقوم سوء فلا مردّ له وما لهم من دونه من وال ) ولهذا السبب فإنّه حين صدور العذاب الإلهي على قوم أو اُمّة ،فسوف ينتهي دور المعقّبات ويتركون الإنسان عرضةً للحوادث
بحوث
1ما هي المعقّبات ؟
«المعقّبات » كما جاء في مجمع البيان للعلاّمة الطبرسي وكما قاله بعض المفسّرين جمع ( معقبة ) وهي بدورها جمع ( معقّب ) ومعناه المجموعة التي تعمل بشكل متناوب ومستمر .والظاهر من الآية أنّ الله سبحانه وتعالى أمر مجموعة من الملائكة بأن يحفظوا الإنسان في الليل والنهار ومن بين يديه ومن خلفه .
إنّ الإنسانبدون شكمعرّض في حياته إلى كثير من الحوادث الروحية والجسمية ،فالأمراض والمتغيّرات في السّماء والأرض محيطة بالإنسان ،وخصوصاً في مرحلة الطفولة التي لا يدرك فيها ما يجري حوله ويكون هدفاً سهلا للإصابة بها ،فقد يتعجّب الإنسان كيف ينجو الطفل وينمو من بين جميع هذه الحوادث ،وخصوصاً في العوائل التي لا تدرك هذه المسائل وتعاني من قلّة الإمكانيات كأبناء الريف الذين يعانون من الحرمان والفقر وهم معرضون للأمراض أكثر من غيرهم .
وإذا ما أمعنّا النظر في هذه المسائل فسوف نجد أنّ هناك قوى محافظة ،تحفظ الإنسان في مقابل هذه الحوادث كالدرع الواقي .
وكثيراً ما يتعرّض الإنسان إلى حوادث خطرة ويتخلّص منها بشكل إعجازي تجعله يشعر أنّ كلّ ذلك ليس صدفة وإنّما هناك قوى محافظة تحميه .
وهناك كثير من الأحاديث المنقولة عن أئمّة المسلمين تؤكّد ذلك ومن جملتها: الحديث المروي عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) في تفسير هذه الآية يقول: «يحفظ بأمر الله من أن يقع في ركي أو يقع عليه حائط أو يصيبه شيء ،حتّى إذا جاء القدر خلوا بينه وبينه يدفعونه إلى المقادير ،وهما ملكان يحفظانه بالليل وملكان من نهار يتعاقبانه » .
وفي حديث آخر عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) يقول: «ما من عبد إلاّ ومعه ملكان يحفظانه فإذا جاء الأمر من عند الله خليا بينه وبين أمر الله » .
ونقرأ في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) «إنّ مع كلّ إنسان ملكين يحفظانه فإذا جاء القدر خليا بينه وبينه » .
كما نقرأ في نهج البلاغة في وصف الملائكة من الخطبة الأُولى «ومنهم الحفظة لعباده » .
إنّ عدم إدراكنا لوجود المعقّبات عن طريق الحسّ أو التجربة العلمية ليس دليلا على عدم وجودهم ،لأنّه غير منحصر في هذا المجال فقط ،فالقرآن الكريم والمصادر المعرفية الأُخرى أشارت إلى اُمور كثيرة وراء الحسّ والتي لا يمكن إثباتها بالطرق العادية .وأكثر من ذلك ما قلنا سابقاً من أنّنا نتعرّض في حياتنا إلى كثير من المخاطر والتي لا يمكن النجاة منها إلاّ بوجود هذه القوى المحافظة ( ورأيت في حياتي بعض من هذه النماذج المحيّرة ،والتي كانت بالنسبة لي كشخص صعب التصديق دليلا على وجود هذا المعقّب اللامرئي ) .
2التغيير يبدأ من النفس ( قانون عام )
تبيّن الجملة ( إنّ الله لا يغيّر ما بقوم ) والتي جاءت في موردين متفاوتين في القرآن الكريم ،أنّها قانون عام ،قانون حاسم ومنذر !
هذا القانون الذي هو واحد من القوانين الأساسيّة لعلم الاجتماع في الإسلام ،يقول لنا: إنّ ما يصيبكم هو من عند أنفسكم ،وما أصاب القوم من السعادة والشقاء هو ممّا عملت أيديهم ،وما يقال من الحظّ والصدفة وما يحتمله المنجّمون ليس له أساس من الصحّة ،فالأساس والقاعدة هي إرادة الأُمّة إذا أرادت العزّة والافتخار والتقدّم ،أو العكس إن أرادت هي الذلّة والهزيمة ،حتّى اللطف الإلهي أو العقاب لا يكون إلاّ بمقدّمة .فتلك إرادة الاُمم في تغيير ما بأنفسهم حتّى يشملهم اللطف أو العذاب الإلهي .
وبتعبير آخر: إنّ هذا الأصل القرآني الذي يبيّن واحداً من أهمّ المسائل الاجتماعية في الإسلام ،يؤكّد لنا أن أي تغيير خارجي للاُمم مرتبط بالتغيير الداخلي لها ،وأي نجاح أو فشل يصيب الأُمّة ناشئ من هذا الأمر ،والذين يبحثون عن العوامل الخارجية لتبرير أعمالهم وتصرّفاتهم ويعتبرون القوى المستعمرة والمتسلّطة هي السبب في شقائهم يقعون في خطأ كبير ،لأنّ هذه القوى الجهنميّة لا تستطيع أن تفعل شيئاً إذا لم تكن لديها قدرة ومركز في داخل المجتمع .
المهمّ أن نطهّر مجتمعاتنا من هذه المقرّات والمراكز للمستعمرين ولا نجعلها تنفذ في داخل مجتمعنا ،فهؤلاء بمنزلة الشياطين ،ونحن نعلم أنّ الشيطان ليس له سبيل على عباد الله المخلصين ،فهو يتسلّط على الذي مهّد له السبيل في داخله .
يقول هذا الأصل القرآني: إنّنا يجب أن نثور من الداخل كي نُنهي حالة الشقاء والحرمان ،ثورة فكرية وثقافية ،ثورة إيمانيّة وأخلاقية ،وأثناء وقوعنا في مخالب الشقاء يجب أن نبحث فوراً عن نقاط الضعف فينا ،ونطهّر أنفسنا منها بالتوبة والرجوع إلى الله ،ونبدأ حياة جديدة مفعمة بالنّور والحركة ،كي نستطيع في ظلّها أن نبدّل الهزيمة إلى نصر ،لا أن نخفي نقاط الضعف وعوامل الهزيمة هذه ونبحث عنها في خارج المجتمع ونظلّ ندور في الطرق الملتوية .
هناك كتب ومؤلّفات كثيرة كتبت عن عوامل انتصار المسلمين الأوائل ثمّ تضعضع سلطانهم بعد حين ،وكثير من تلك الأبحاث ظلّت تتعثّر في الطرق الملتوية ،ولكن إذا ما أردنا أن نستلهم من الأصل أعلاه والصادر من منبع الوحي فيجب أن نبحث عن ذاك النصر أو تلك الهزيمة وعن عواملها الفكرية والعقائدية والأخلاقية في المسلمين .ففي الثورات المعاصرة ومن جملتها الثورة الإسلامية في إيران ،أو ثورة الجزائر أو ثورة المسلمين الأفغان ،نشاهد بوضوح انطباق هذا الأصل القرآني عليها .فقبل أن تغيّر الدول المستعمرة والمستكبرة طريقتها في التعامل معنا ،غيّرنا نحن ما بأنفسنا فتغيّر كلّ شيء .
وعلى أيّة حال فهذا درس ليومنا ولغدنا ولمستقبلنا ولكلّ المسلمين والأجيال القادمة .ونحن نرى أنّ القيادات المنتصرة فقط هي التي استطاعت أن تقود وتغيّر شعوبها على أساس هذا الأصل الخالد ،وفي تاريخ المسلمين والإسلام شواهد على ذلك كثيرة .