/م125
وآخر آية من سورة النحل تعرض الأمرين التاسع والعاشر ،حيث تقول:
9( إِنّ اللّه مع الذين اتقوا ):
التقوى في جميع أبعادها وبمفهومها الواسع ،ومنها: التقوى في مواجهة المخالفين بمراعاة أُصول الأخلاق الإِسلامية عند المواجهة ،فمع الأسير لابدّ من مراعاة أصول المعاملة الإِسلامية ،ومع المنحرف ينبغي مراعاة الإِنصاف والأدب والتورع عن الكذب والاتهام ،وفي ميدان القتال لابدّ من التعامل على ضوء التعليمات العسكرية وفق الموازين والضوابط الإِسلامية ،فمثلا: ينبغي عدم الهجوم على العزل من الأعداء ،عدم التعرض للأطفال والنساء والعجزة ،ولا التعرض للمواشي والمزارع لأجل إِتلافها ،ولا يقطع الماء على العدو ...وخلاصة القول: تجب مراعاة أُصول العدل مع العدو والصديق ( وطبيعي أن تخرج بعض الموارد عن هذا الحكم استثناءا وليس قاعدة ) .
10( والذين هم محسنون ) .
أكّد القرآن الكريم في كثير من آياته البيّنات بأن يقابل المؤمن إِساءة الجاهل بالإِحسان ،عسى أنْ يخجل الطرف المقابل أو يستحي من موقفه المتشنج ،وبهذه السلوكية الرائعة قد ينتقل ذلك الجاهل من ( ألدّ الخصام ) إلى أحسن الأصدقاء ( ولي حميم ) !
وإِذا عمل بالإِحسان في محله المناسب ،فإِنّه أفضل أُسلوب للمواجهة ،والتأريخ الإِسلامي يرفدنا بعيّنات رائعة في هذا المجال ..ومنها: موقف معاملة النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) مع مشركي مكّة بعد الفتح ،معاملة النّبي الكريم( صلى الله عليه وآله وسلم ) ل ( وحشي ) قاتل حمزّة ،معاملته( صلى الله عليه وآله وسلم ) لأسرى معركة بدر الكبرى ،معاملته( صلى الله عليه وآله وسلم ) مع مَنْ كان يؤذيه بمختلف السبل من يهود زمانه ..ونجد شبيه معاملة النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) مع الآخرين قد تجسدت عملياً في حياة علي( عليه السلام ) وسائر الأئمّة( عليهم السلام ) ،وكل ذلك يكشف لنا بوضوح أهمية الإِحسان في حياة الإنسان من وجهة نظر الإِسلام .
ومن دقيق العبارة في هذا المجال ما نجده في نهج البلاغة ضمن الخطبة المعروفة بخطبة همّام ،ذلك الرجل الزاهد العابد الذي طلب من أمير المؤمنين( عليه السلام )أنْ يصف له المتقين ،حيث اكتفى أمير المؤمنين( عليه السلام ) بذكر الآية المباركة من مجموع القرآن وقال: ( اتق اللّه وأحسن إِنّ اللّه مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ){[2163]} .
ولكنّ السائل العاشق للحقِّ لم يروَ عطشه بهذا البيان المختصر ،ممّا اضطر الإِمام( عليه السلام ) أنْ يعرض له بياناً أكثر تفصيلا حتى استخرجت من فمه الشريف أكمل خطبة في وصف المتقين ،حوت على أكثر من مائة صفة لهم ،إِلاّ أنّ جوابه المختصر يبيّن أنّ الآية المباركة مختصر جامع لكل صفات المتقين .
وبنظرة تأمليّة ممعنة إلى الأصول العشرة المذكورة ،تتبيّن لنا جميع الخطوط الأصليّة والفرعية لأُسلوب مواجهة المخالفين ،وأنّ هذه الأُصول إِنّما احتوت كل الأُسس المنطقية والعاطفية والنفسية والتكتيكية ،وكل ما يؤدي للنفوذ إلى أعماق نفوس المخالفين للتأثير الايجابي فيها .
ومع ذلك ...فالاكتفاء بالمنطق والاستدلال في مواجهة الأعداء وفي كل الظروف لا يقول به الإِسلام ولا يقرّه ،بل كثيراً ما تدعو الضرورة لدخول الميدان عملياً في مواجهة الأعداء حتى يلزم الأمر في بعض الأحيان المقابلة بالمثل والتوسل بالقوّة في قبال استعمال القوة من قبل الأعداء ،وبالتدابير المبيتة في قبال ما يبيتون أُمور ،ولكنْ أُصول العدل والتقوى والأخلاق والإِسلامية يجب أنْ تراعى في جميع الحالات .
ولو عمل المسلمون وفق هذا البرنامج الشامل لساد الإِسلام كل أرض المعمورة أو معظمها على أقل التقادير .