ثمّ تتطرق الآية الأخيرة إلى علم اللّه في الغيب والشهادة: ( لا جَرَمَ أنّ اللّه يعلم ما يسرون وما يعلنون ) .
والآية في واقعها تهديد للكفار وأعداء الحق ،بأنّ اللّه عزَّ وجلّ ليس بغافل عنهم ،سرهم وعلانيتهم ،وكل سينال جزاءه بما غرفت يداه .
فهم مستكبرون و ( أنّه لا يحب المستكبرين ) ،والاستكبار على الحق من علامات الجهل باللّه عزَّ وجلّ .
إِنّ كلمة «لا جرم » متكون من «لا » و «جرم » وتستعمل عادة للتأكيد بمعنى ( قطعاً ) ،وأحياناً بمعنى ( لابد ) ،وفي بعض الأحيان تستعمل كقسم مثل: ( لا جرم لأفعلن ) .
أمّا كيف أمكن استخراج هذه المعاني من كلمة «لا جرم » فذلك لأنّ «جرم » في الأصل بمعنى القطف وقطع الثمار من الأشجار ،وعندما تدخل عليها «لا » يكون مفهومها: أنْ لا شيء يستطيع قطع هذا الموضوع ومنعه من التحقق ،ولهذا يستفاد منها معاني: قطعاً ،ولابدّ ،وأحياناً القسم .
بحث
من هم المستكبرون ؟
وردت كلمة الاستكبار في آيات كثيرة من القرآن الكريم باعتبارها إِحدى الصفات الذميمة الخاصّة بالكفار ،ولتعطي معنى التكبر عن قبول الحق .
ففي الآية السابقة من سورة نوح: ( وإِنّي كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في أذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكباراً ) .
وفي الآية الخامسة من سورة المنافقين: ( وإِذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول اللّه لوّوا رؤسهم ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون ) .
وكذلك في الآية الثّامنة من سورة الجاثية: ( يسمع آيات اللّه تتلى عليه ثمّ يصر مستكبراً كأن لم يسمعها ) .
ومن أقبح ألوان التكبر ذلك الذي يقف أمام قبول الحق فيرفضه ،لأنّه يغلق على الإِنسان جميع سبل الهداية ويتركه يتخبط في متاهات المعاصي والضلال .
ويصف أمير المؤمنين( عليه السلام ) الشيطان بأنّه: «سلف المستكبرين »{[2067]} لأنه أوّل مَنْ خطا في طريق مخالفة الحق بعدم تسليمه للحقيقة الرّبانية التي تقول: إِنّ أدم أكمل منه .
صحيح أنّ زهو المال قد يوقع الإِنسان في حالة الاستكبار ،إِلاّ أنّ المسألة أكبر من ذلك وأشمل ،فكل رافض لقبول الحق مستكبر وإِن كان فقيراً .
ونختم البحث برواية عن الإِمام الصادق( عليه السلام ) أنّه قال: «ومَنْ ذهب يرى أنّ له على الآخر فضلا فهو من المستكبرين ،فقلت: إِنّما يرى أن له عليه فضلا بالعافية إِذا رآه مرتكباً للمعاصي ؟فقال: هيهات هيهات !فلعله أن يكون قد غفر له ما أتى وأنت موقوف تحاسب ،أما تلوت قصّة سحرة موسى( عليه السلام ) »{[2068]} .
( حين وقف السحرة يوماً في مقابل موسى( عليه السلام ) إِرضاءً لفرعون وطمعاً في جوائزه ،ولكنّهم انقلبوا فجأة لما تبيّن لهم الحق واعتنقوه وما هابوا تهديد فرعون ،وبقوا على رفضهم في عديم التسليم للطاغية ،فكانت النتيجة أنْ عفا اللّه عنهم ورحمهم ) .