ثم تضيف الآية الكريمة أن هؤلاء فقدوا كل وسيلة لدرك الحقائق: ( صُمٌ بُكمٌ عُميٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ ) .
والمثال المذكور يصوّر بدقّة عمل المنافقين على ساحة الحياة الإنسانية .فهذه الحياة مملوءة بطرق الانحراف والضلال ،وليس فيها سوى طريق مستقيم واحد للهداية ،وهذا الطريق مليء بالمزالق والأعاصير .ولا يستطيع الفرد أن يهتدي من بين الطرق الملتوية إلى الصراط المستقيم ،كما لا يستطيع أن يتجنب المزالق ويقاوم أمام الأعاصير ،إلاّ بنور العقل والإيمان ،وبمصباح الوحي الوهّاج .
وهل تستطيع الشعلة المحدودة المؤقتة التي يضيئها الإنسان ،أن تهدي الكائن البشري في هذا الطريق الشائك الطويل ؟!
هؤلاء الذين سلكوا طريق النفاق ،ظنوا أنّهم قادرون بذلك أن يحافظوا على مكانتهم ومصالحهم لدى المؤمنين والكافرين .وأن ينضمّوا إلى الفئة الغالبة بعد نهاية المعركة .كانوا يخالون أن عملهم هذا ذكاء وحنكة .وأرادوا أن يستفيدوا من هذا الذكاء وهذه الحنكة ،كضوء يشقّ لهم طريق الحياة ويوصلهم إلى مآربهم .لكن الله سبحانه ذهب بنورهم وفضحهم ،إذ قال لرسوله: ( إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا: نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ ،والله يَعْلَمُ إنَّكَ لَرَسُولُهُ ،وَاللهُ يَشْهَدُ إنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ )( المنافقون ،1 و 2 ) .
والقرآن الكريم يفضح المنافقين لدى الكافرين أيضاً ،ويبيّن كذبهم ونكولهم إذ يقول: ( اَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً ،وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ .لَئِنْ أُخْرِجُوا لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لاَ يَنْصُرُونَهُمْ ،وَلئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الاَْدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنْصَرُونَ )( الحشر ،11 و 12 ) .
جدير بالذكر أن القرآن استعمل عبارة ( استوقد نَاراً ) أي إنهم استفادوا للإِنارة من «النار » ذات الدخان والرّماد والحريق ،بينما يستنير المؤمنون بنور الإيمان الخالص وبضوئه الساطع .
باطن المنافقين ينطوي على النار ،وإن تظاهروا بنور الإيمان ،وإذا كان ثمة نور فهو ضعيف في قوته وقصير في مدته .
هذا النور الضعيف المؤقّت ،إمّا أن يكون إشارة إلى الضمير والفطرة التوحيدية ،أو إشارة إلى الإيمان الأوّلي لهؤلاء المنافقين حيث أُسدلت عليه ستائر مظلمة على أثر التقليد الأعمى والتعصب المقيت واللجاج والعداء ،فتحولت ساحة حياتهم لا إلى ظلمة ،بل إلى «ظُلمات » في التعبير القرآني .
وهؤلاء سيفقدون في النهاية قدرة الرؤية الصحيحة ،والإستماع الصحيح ،والنطق الصحيح ،وهذه نتيجة طبيعيةكما ذكرنا سابقاًللإستمرار على الإنحراف والإصرار على الغيّ ،حيث يؤدي إلى إضعاف آليات الادراك لدى الانسان فيرى الحقائق مقلوبة ،فالخير في نظره شرّ ،والملك شيطان ،وهكذا .
على أي حال هذا التشبيه يوضّح واحدة من حقائق النفاق ،وهي إن عمر النفاق والتذبذب لا يدوم طويلا ،قد يستطيع المنافقون لمدة قصيرة أن يتمتعوا بمصونية الإسلام والإيمان ،وبصداقة الكفار سراً .لكن هذه الحالة مثل شعلة ضعيفة معرضة لألوان العواصف ،سرعان ما تنطفى ،ويظهر الوجه الحقيقي للمنافقين ،ويظلون منفورين مطرودين حائرين ،مثل إنسان يتخبّط في ظلام دامس .
لابدّ من الإشارة إلى ما ورد في تفسير الآية الكريمة: ( هُوَ الَّذي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً )( يونس ،5 ) .
عن الإمام محمّد بن علي الباقر( عليه السلام ) قال: «أَضَاءَتِ الأَرْضُ بِنُورِ محمّد( صلى الله عليه وآله وسلم )كَمَا تُضِيءُ الشَّمْسُ ،فَضَرَبَ اللهُ مَثَلَ محمّد( صلى الله عليه وآله وسلم ) الشَّمْسَ وَمَثَلَ الْوَصِيِّ الْقَمَرَ »{[85]} .
وهذا يعني أن نور الإيمان والوحي يغمر العالم كلّه .ولا يمتلك منه المنافقون شيئاً ،حتّى لو كان في النفاق نور ،فإنّ مدياته قصيرة ودائرته صغيرة لا يضيء إلاّ ما حوله .