وقد حذّرت الآية التالية البشر من الفُرقة والاختلاف ،بعد أن تمّت في الآية السابقة دعوتهم إلى التمسّك بالوحدة فقالت: ( فتقطّعوا أمرهم بينهم زبراً ) وممّا يثير الدهشة أنّ ( كلّ حزب بما لديهم فرحون ) .
«الزبر » جمع «زبرة » على وزن «لقمة » تعني بعض شعر الحيوان خلف رأسه .يجمعه الراعي ليفصله عن باقي الشعر .ثمّ أطلقت هذه الكلمة على كلّ شيء ينفصل عن أصله ،فتقول الآية: ( فتقطّعوا أمرهم بينهم زبراً ) .إشارة منها إلى تفرّق الاُمّة إلى مجموعات وفئات مختلفة .
واحتمل البعض الآخر أنّ الزبر جمع «زبور » بمعنى كتاب ،وتعني أنّ كلّ فئة منهم كانت تمسك بكتاب منزل وتنفي ما عداه من الكتب السماوية ،مع أنّ مصدرها واحد .ولكن عبارة ( كلّ حزب بما لديهم فرحون ) تدعم التّفسير الأوّل ،فكلّ حزب يتحدّث بما تشتهي نفسه ،ويصرّ على رأيه .
تستعرض الآية حقيقة نفسيّة واجتماعية هي أنّ التعصّب الجاهلي للأحزاب والفئات يمنع وصولها إلى الحقيقة !لأنّ كلاًّ منها قد اتّخذ سبيلا خاصّاً به ،وأصبح في قوقعة لا تسمح لنور جديد بالدخول إلى قلبه ،ولا بنسيم معنوي يهبّ على روحه ليكشف لها حقيقة من الحقائق .
وهذه الحالة نتجت عن حبّ الذات المفرط والعناد ،وهما أكبر عدوٍّ للحقيقة ،ولوحدة الاُمّة .إنّ الاعتزاز بالنمط الذي تعيشه كلّ فئة واحتقار سواه يجعل الإنسان يصمّ اُذنيه عن كلّ صوت يخالف ما اعتقده .ويُغطّي رأسه بثوبه ،أو يلجأ إلى الفرار خوفاً من تجلّي حقيقة على خلاف ما اعتاد عليه كما يذكر القرآن المجيد عن حال المشركون زمن نوح ( عليه السلام ) وعلى لسان هذا النّبي المرسل: ( وإنّي كلّما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصرّوا واستكبروا استكبارا ){[2716]} .
ولا يمكن للإنسان النجاة بنفسه والوصول إلى الحقّ إلاّ بالتخلّص من هذه الحالة وإنهاء عناده .