التّفسير
الاتهامات المتعددة الألوان:
هذه الآياتفي الحقيقةتتمة للبحث الذي ورد في الآيات السابقة ،في مسألة المواجهة مع الشرك وعبادة الأوثان .ثمّ في الإدعاءات الواهية لعبدة الأوثان ،واتهاماتهم فيما يتعلق بالقرآن ،وشخص النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم .
الآية الأُولىفي الواقعتجر المشركين إلى المحاكمة ،ولتحريك وجدانهم تقول بمنطق واضح وبسيط ،وفي نفس الوقت قاطع وداحض: ( واتخذوا من دون الله آلهة لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون ) .
المعبود الحقيقي هو خالق عالم الوجود ،ولا يدعي المشركون هذا الإدعاء لأوثانهم ،بل يعتقدون أنّها مخلوقة لله .
وبعدُ ،فماذا يمكن أن تكون دوافعهم لعبادة الأوثان التي لا تملك لنفسها نفعاً ولا ضراً ،ولا تملك موتاً ولا حياة ولا نشوراً ،فما بالك بما تستطيعه للآخرين !؟( ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً ولا يملكون موتاً ولا حياة ولا نشوراً ) .
والاُصول المهمّة عند الإنسان هي هذه الأُمور الخمسة بالذات: النفع والضر ،والموت ،والحياة ،والنشور .
فمن يكن بحق مالكاً أصيلا لهذه الأُمور ،يكن بالنسبة إلينا جديراً بالعبادة .
لكن هذه الأصنام غير قادرة أصلا على هذه الأُمور لنفسها ،فكيف تريد أن توفّر هذه الاُمور لمن يعبدها من المشركين ؟!
أي منطق مفتضح هذا !؟أن ينقاد الإنسان ويتذلل على أعتاب موجودلا اختيار له في نفسه ،فما بالك باختياره للآخرين !؟
هذه الأوثان ليست عاجزة في الدنيا عن حل مشكلة ما لعبدتها فحسب ،بل إنّها لا يؤمل منها شيء في الآخرة أيضاً .
هذا التعبير يدل على أنّ هذه الفئة من المشركين ،المخاطبة في هذه الآيات ،كانت تقبل بالمعاد نوعاً من القبول ( المعاد الروحي لا الجسدي ) ،أو أن القرآنحتى مع عدم اعتقادهم بمسألة المعاديتناول القضية كمسلّمة ،فيخاطبهم بشكل قاطع على هذا الصعيد ،وهذا مألوف ،فالإِنسان أحياناً يكون أمام شخص منكر للحقيقة ،لكنّه يدلي بكلامه طبقاً لأفكاره هو ،دون اعتناء بأفكار ذلك المنكر .خاصّة وأنّ دليلا ضمنياً على المعاد قد كمن في نفس الآية ،لأنّ خالقاً حينما يبتدع مخلوقاًوهو مالك موته وحياته وضرّه ونفعهلابدّ أن يكون له هدف من خلقه ،ولا يمكن أن يتحقق هذا الهدف فيما يخص الناس بدون الإِيمان بالنشور ،ذلك لأنّه إذا انتهى بموت الإِنسان كل شيء ،فسوف تكون الحياة فارغة بلا معنى ،وهذا يدلّ على أن ذلك الخالق لم يكن حكيماً .
إذا تأملنا جيداً وجدنا مسألة «الضرر » جاءت في الآية قبل «النفع » وذلك لأن الإِنسان ينفر من الضرر بالدرجة الأُولى ،ولهذا كانت جملة «دفع الضرر أولى من جلب المنفعة » أحد القوانين العقلائية .
وإذا كان «الضرر » و «النفع » و «الموت » و «الحياة » و «النشور » جاءت بصيغة النكرة ،أيضاً ،فلأجل بيان هذه الحقيقة ،وهي أن هذه الأوثان لا تملك نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياة ولا نشورا ،حتى في مورد واحد ،فما بالك بالموارد كلها !؟
وإذا ذكرت «لا يملكون » و «لا يخلقون » بصيغة «جمع المذكر العاقل » ( في حال أنّ هذه الأوثان الحجرية والخشبية ليس لها أدنى عقل أو شعور ) فذلك لأنّ هذا الخطاب لا يتعلق بالأوثان الحجرية والخشبية فحسب ،بل بالجماعة التي كانت تعبد الملائكة أو المسيح ،ولأن العاقل وغير العاقل مجتمعان في معنى هذه الجملة ،فذكر الجميع بصيغة العاقل من باب «التغليب » كما في الاصطلاح الأدبي .
أو أن الخطاب في هذه العبارة كان طبقاً لاعتقاد المخاطبين به ،حتى يثبت عجزهم وعدم استطاعتهم ،يعني: إذا كنتم تعتقدون أن هذه الأوثان ذات عقل وشعور ،فلماذا لا تستطيع أن تدفع عن نفسها ضرراً ،أو أن تجلب منفعة !؟