التّفسير:
طوق الأسر الثّقيل:
تبيّن الآية الحاضرة مصير البخلاء في يوم القيامة ،أُولئك الذين يبذلون غاية الجهد في جمع الثّروة ثمّ يمتنعون عن الإِنفاق في سبيل الله ،ولصالح عباده .
والآية هذه وإِن لم تتعرض صراحة لذكر الزكاة وغيرها من الحقوق والفرائض المالية ،إِلاّ أنّ الأحاديث الواردة عن أهل البيت( عليهم السلام ) ،وكذا أقوال المفسرين خصصت هذه الآية وما وعد به فيها من الوعيد بمانعي الزكاة ،ويؤيده التشديد المشهود في الآية ،فإِن أمثال هذا التشديد والتغليظ لا يتناسب مع الإِنفاق المندوب المستحب .
تقول الآية أوّلا: ( ولا يحسبن الّذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم بل هو شرّ لهم ) ثمّ تصف مصير هؤلاء في يوم القيامة هكذا: ( سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ) أي ستكون تلك الأموال التي بخلوا بها طوقاً في أعناقهم في ذلك اليوم الرهيب .
ومن هذه الجملة يستفاد أن الأموال التي لم يدفع صاحبها الحقوق الواجبة فيها ،ولم ينتفع بها المجتمع ،بل صرفت فقط في سبيل الأهواء الشخصية ،وربّما صرفت في ذلك السبيل بشكل جنوني ،أو كدست دون أي مبرر ولم يستفد منها أحد سيكون مصيرها مصير أعمال الإِنسان ،أي أنّهاطبقاً لقانون تجسم الأعمال البشريةستتجسم يوم القيامة وتتمثل في شكل عذاب مؤلم يؤذي صاحبها ويخزيه .
إِنّ تجسّم مثل هذه الأموال التي تطوق بها أعناق ذويها إِشارة إِلى الحقيقة التالية ،وهي أن كل إِنسان يتحمل ثقل مسؤوليتها كاملا دون أن يكون هو قد انتفع بها .
إِنّ الأموال الوفيرة التي تجمع بشكل جنوني وتكنز ولا تصرف في خدمة المجتمع لا تكون سوى أغلال وسجون لأصحابها ،لأن للاستفادةكما نعلممن الأموال والثروة الشخصية حدوداً ،فإِذا تجاوزها الإِنسان عادت عليه نوعاً من الأسر الثقيل ،والوزر الضّار ،اللّهم إِلاّ أن يستفيد من آثارها المعنوية وذلك حينما يوظفها في الأعمال الإِيجابية الصالحة .
ثمّ إن هذه الأموال لا تشكل طوقاً ثقيلا في أعناق أصحابها في الآخرة فحسب ،بل تكون كذلك في هذه الدنيا أيضاً ،غاية الأمر أن هذا المعنى يكون أكثر ظهوراً في الآخرة ،بينما يكون في شيء من الخفاء في هذه الحياة ،فأية حماقةترىأكبر من أن يتحمل المرء مسؤولية جمع الثّروة مضافة إِلى مسؤولية الحفاظ عليها وحسابها والدّفاع عنها وما يلازم ذلك من مشاق تثقل كاهله ،في حين لا ينتفع بها هو أبداً ،وهل الأموال حينئذ إِلاّ طوق أسر ثقيل لا غير ؟
ففي تفسير العياشي عن الإِمام الباقر( عليه السلام ) أنه قال: «الذي يمنع الزكاة يحول اللهماله يوم القيامة شجاعاً{[697]} من نار ...ثمّ يقال له: ألزمه كما لزمك في الدنيا » .
والملفت للنظر التعبير عن المال في هذه الآية ب ( ما أتاهم الله من فضله )الذي يفهم منه أن المالك الحقيقي لهذه الأموال ومصدرها هو الله سبحانه ،وإِن ما أعطاه لأيّ واحد من الناس فإِنّما هو من فضله ،ولهذا ينبغي أن لا يبخل ،أن ينفق من تلك الأموال في سبيل صاحبها الحقيقي .
ثمّ إنّ بعض المفسرين يرى أن مفهوم هذه العبارة يعم جميع المواهب الإِلهية ومنها العلم ،ولكن هذا الاحتمال لا ينطبق مع ظاهر التعبيرات الواردة في الآية .
ثمّ إنّ الآية تشير إِلى نقطة أخرى إِذ تقول: ( ولله ميراث السماوات والأرض ) يعني أن الأموال سواء أنفقت في سبيل الله أو لم تنفق فإِنّها ستنفصل في النهاية عن أصحابها ،ويرث الله الأرض والسماء وما فيهما ،فالأجدر بهموالحال هذهأن ينتفعوا من آثارها المعنوية ،لا أن يتحملوا وزرها وعناءها ،وحسرتها وتبعتها .
ثمّ تختم الآية بقوله تعالى: ( والله بما تعملون خبير ) أي أنّه عليم بأعمالكم ،يعلم إذا بخلتم ،كما يعلم إِذا انفقتم ما أُوتيتموه من المال في السبيل الصالح العام وخدمة المجتمع الإِنساني ،ويجازي كلا على عمله بما يليق .
سبب النّزول:
هذه الآية نزلت ردّاً على مقالة اليهود وتوبيخاً لهم .
فعن ابن عباس أنّه قال: كتب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كتاباً إِلى يهود «بني قينقاع » دعاهم فيه لإِقامة الصلاة وإِيتاء الزكاة وأن يقرضوا الله «والمراد منه الإِنفاق في سبيل الله وإِنما عبر عنه بالإِقراض لتحريك المشاعر وإِثارتها لدى الناس قدراً أكبر ) فدخل رسول النّبي إِلى بيت المدارس ( حيث يتلقى اليهود دروساً في دينهم ) وسلم كتاب النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) إِلى «فنحاص » وهو من كبار أحبار اليهود فلمّا قرأه قال مستهزئا: لو كان ما تقولونه حقاً فإن الله إِذن لفقير ونحن أغنياء ،ولو كان غنياً لما استقرض منّا ( وهو يشير إِلى قوله تعالى: ( مَن ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً{[698]} ) هذا مضافاً إِلى أن «محمّداً » يعتقد أنّ اللّه نهاكم عن أكل الرّبا ،وهو يعدكم أن يضاعف لكم إِذا أنفقتم أضعافاً مضاعفة ،وهو يشير إِلى قوله تعالى: ( يربي الصدقات ){[699]} .
ولكنّ «فنحاص » أنكر أنّه قال شيئاً من هذه في ما بعد فنزلت الآيتان المذكورتان أعلاه{[700]} .