التّفسير
هذا خلق الله:
مواصلة للبحث حول القرآن والإيمان به في الآيات السابقة ،تتحدّث الآيتان أعلاه عن أدلّة التوحيد الذي هو أهمّ الأصول العقائدية .
تشير الآية الاُولى إلى خمسة أقسام من مخلوقات الله التي ترتبط مع بعضها ارتباطا وثيقاً لا ينفصل ،وهي: خلق السماء ،وكون الكواكب معلّقة في الفضاء ،وخلق الجبال لتثبيت الأرض ،ثمّ خلق الدواب ،وبعد ذلك الماء والنباتات التي هي وسيلة تغذيتها ،فتقول: ( خلق السماوات بغير عمد ترونها ) .
( العَمَد ) جمع ( عمود ) ،وتقييد بنائها وإقامتها ب( ترونها ) دليل على أنّه ليس لهذه السماء أعمدة مرئيّة ،ومعنى ذلك أنّ لها أعمدة إلاّ أنّها غير قابلة للرؤية ،وكما
قلنا قبل هذا في تفسير سورة الرعد أيضاً ،فإنّ هذا التعبير إشارة لطيفة إلى قانون الجاذبيّة الذي يبدو كالعمود القويّ جدّاً ،إلاّ أنّه غير مرئيّ ،يحفظ الأجرام السماوية .
وقد صُرّح في حديث رواه حسين بن خالد ،عن الإمام علي بن موسى الرضا( عليه السلام ) ،أنّه قال: «سبحان الله !أليس الله يقول: ( بغير عمد ترونها ؟) » قلت: بلى ،قال: «ثمّ عمد ولكن لا ترونها{[3248]} »{[3249]} .
وعلى كلّ حال ،فإنّ الجملة أعلاه أحد معاجز القرآن المجيد العلميّة ،وقد أوردنا تفصيلا أكثر عنها في ذيل الآية{[3250]} من سورة الرعد .
ثمّ تقول الآية في الغاية من خلق الجبال: ( وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم ){[3251]} .
إنّ هذه الآية التي لها نظائر كثيرة في القرآن ،توضّح أنّ الجبال وسيلة لتثبيت الأرض ،وقد تثبت هذه الحقيقة اليوم من الناحية العلميّة من جهات عديدة:
فمن جهة أنّ أصولها مرتبطة مع بعضها ،وهي كالدرع المحكم يحفظ الكرة الأرضية أمام الضغوط الناشئة من الحرارة الداخلية ،ولولا هذه الجبال فإنّ الزلازل المدمّرة كانت ستبلغ حدّاً ربّما لا تدع معه للإنسان مجالا للحياة .
ومن جهة أنّ هذه السلسلة المحكمة تقاوم جاذبية القمر والشمس الشديدة ،وإلاّ فسيحدث جزر ومدّ عظيمان في القشرة الأرضية أقوى من جزر ومدّ البحار ،وتجعل الحياة بالنسبة للإنسان مستحيلة .
ومن جهة أنّها تقف سدّاً أمام العواصف والرياح العاتية ،وتقلّل من تماسّ الهواء
المجاور للأرض عند دوران الأرض حول نفسها إلى أقلّ حدّ ،ولو لم تكن هذه الجبال لكان سطح الأرض كالصحاري اليابسة ،وعرضة للأعاصير والزوابع المهلكة ،والعواصف الهوجاء المدمّرة ليل نهار{[3252]} .
وبعد ذكر نعمة استقرار السماء بأعمدة الجاذبية .واستقرار وثبات الأرض بواسطة الجبال ،تصل النوبة إلى خلق الكائنات الحيّة واستقرارها ،بحيث تستطيع أن تضع أقدامها في محيط هادئ مطمئن ،فتقول: ( وبثّ فيها من كلّ دابّة ) .
إنّ التعبير ب ( من كلّ دابّة ) إشارة إلى تنوّع الحياة في صور مختلفة ،ابتداء من الكائنات الحيّة المجهرية والتي ملأت جميع الأرجاء إلى الحيوانات العملاقة والمخوفة .
وكذلك الحيوانات المختلفة الألوان ،والمتفاوتة الأشكال التي تعيش في الماء والهواء من الطيور والزواحف ،والحشرات المختلفة وأمثالها ،والتي لكلّ منها عالمها الخاصّ تعكس الحياة في مئات الآلاف من المرايا .
إلاّ أنّ من المعلوم أنّ هذه الحيوانات تحتاج إلى الماء والغذاء ،ولذلك فإنّ الجملة التالية أشارت إلى هذا الموضوع ،فقالت: ( وأنزلنا من السماء ماءً فأنبتنا فيها من كلّ زوج كريم ) .
وبهذا فإنّ الآية تبيّن أساس حياة كلّ الحيواناتوخاصّة الإنسانوالذي يكوّنه الماء والنبات ،فالكرة الأرضية تعتبر سماطاً واسعاً ذا أغذية متنوّعة يمتدّ في جميع أنحائها ،ويصلح لكلّ نوع منها حسب خلقته ،ممّا يدلّ على عظمة الخالق جلّ وعلا .
وممّا يستحقّ الانتباه هو أنّه في بيان خلق الأقسام الثلاثة الاُولى ذكرت الأفعال بصيغة الغائب ،وحين وصل الأمر إلى نزول المطر ونمو النباتات أتت الأفعال بصيغة المتكلّم ،فيقول: نحن أنزلنا من السماء ماءً ،ونحن أنبتنا النباتات في الأرض .
وهذا بنفسه أحد فنون الفصاحة ،حيث إنّهم عندما يريدون ذكر اُمور مختلفة ،فإنّهم يبيّنونها بشكلين أو أكثر ،كي لا يشعر السامع بأيّ نوع من الضجر والرتابة ،إضافةً إلى أنّ هذا التعبير يوضّح أنّ نزول المطر ونمو النبات كانا محطّ اهتمام خاصّ .
ثمّ تشير هذه الآية مرّة أخرى إلى مسألة ( الزوجيّة في عالم النباتات ) وهي أيضاً من معجزات القرآن العلميّة ،لأنّ الزوجيّةأي وجود الذكر والاُنثىفي عالم النباتات لم تكن ثابتة في ذلك الزمان بصورة واسعة ،والقرآن كشف الستار عنها .ولزيادة التفصيل حول هذه المسألة يمكنكم مراجعة ذيل الآية ( 7 ) من سورة الشعراء .
ثمّ إنّ وصف أزواج النباتات ب«الكريم » إشارة ضمنية إلى أنواع المواهب الموجودة فيها .