ثمّ تطرّقت الآية التالية إلى الثواب العظيم للمؤمنين الحقيقيين الذين يتمتّعون بالصفات المذكورة في الآيتين السابقتين ،فتقول بتعبير جميل يحكي الأهميّة الفائقة لثوابهم: ( فلا تعلم نفس ما اُخفي لهم من قرّة أعين جزاءً بما كانوا يعملون ) .
التعبير ب ( فلا تعلم نفس ) وكذلك التعبير ب ( قرّة أعين ) مبيّن لعظمة هذه المواهب والعطايا التي لا عدّ لها ولا حصر ،خاصّة وأنّ كلمة ( نفس ) قد وردت بصيغة النكرة في سياق النفي ،وهي تعني العموم وتشمل كلّ النفوس حتّى ملائكة الله المقرّبين وأولياء الله .
والتعبير ب ( قرّة أعين ) من دون الإضافة إلى النفس ،إشارة إلى أنّ هذه النعم الإلهيّة التي خصّصت كثواب وجزاء للمؤمنين المخلصين في الآخرة ،في هيئة تكون معها قرّة لعيون الجميع .
( قرّة ) مادّة القَرّ ،أي البرودة ،ومن المعروف أنّ دموع الشوق باردة دائماً ،وأنّ دمع الغمّ والحسرة حارّ محرق ،فالتعبير ب ( قرّة أعين ) يعني في لغة العرب الشيء الذي يسبّب برودة عين الإنسان ،أي أنّ دموع الشوق والفرح تجري من أعينهم ،وهذه كناية لطيفة عن منتهى الفرح والسرور والسعادة .
وفي حديث عن النّبي الأكرم ( صلى الله عليه وآله ): «إنّ الله يقول: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ،ولا اُذن سمعت ،ولا خطر على قلب بشر »{[3317]} .
وثمّة سؤال طرحه المفسّر الكبير العلاّمة «الطبرسي » في ( مجمع البيان ) وهو: لماذا اُخفي هذا الثواب والجزاء ؟
ثمّ يذكر ثلاثة أجوبة لهذا السؤال:
1أنّ الاُمور المهمّة والقيّمة لا يمكن إدراك حقيقتها بسهولة من خلال الألفاظ والكلام ،ولذلك فإنّ إخفاءها وإبهامها يكون أحياناً أكثر تحفيزاً ،وأبعث على النشاط ،وهو أبلغ من ناحية الفصاحة .
2أنّ الشيء الذي يكون قرّة للأعين ،يكون عادةً مترامي الأطراف إلى الحدّ الذي لا يصل علم ابن آدم إلى جميع خصوصياته .
3لمّا كان هذا الجزاء قد جعل لصلاة الليل المستورة ،فإنّ المناسب أن يكون ثواب هذا العمل عظيماً ومخفيّاً أيضاً .وينبغي الالتفات إلى أنّ جملة ( تتجافى جنوبهم عن المضاجع ) في الآية السابقة إشارة إلى صلاة الليل .
وفي حديث عن الإمام الصادق ( عليه السلام ): «ما من حسنة إلاّ ولها ثواب مبين في القرآن ،إلاّ صلاة الليل ،فإنّ الله عزّ اسمه لم يبيّن ثوابها لعظم خطرها ،قال: فلا تعلم نفس ما اُخفي لهم من قرّة أعين »{[3318]} .
وبغضّ النظر عن كلّ ذلك ،فإنّ عالم القيامةوكما أشرنا إلى ذلك سابقاًعالم أوسع من هذا العالم سعةً لا تحتمل المقارنة ،فهو أوسع حتّى من الحياة الدنيا بالقياس إلى حياة الجنين في رحم الاُمّ ،وأبعاد ذلك العالم لا يمكن إدراكها عادةً بالنسبة لنا نحن السجناء داخل الجدران الأربعة للدنيا ،ولا يمكن تصوّره من قبل أحد .
إنّنا نسمع كلاماً عنه فقط ،ونرى شبحه من بعيد ،لكنّنا ما لم ندرك ولم نر ذلك العالم ،فإنّ من المحال إدراك أهميّته وعظمته ،كما أنّ إدراك الطفل في بطن الاُمّ لنعم هذه الدنياعلى فرض امتلاكه العقل والإحساس الكاملغير ممكن .
وقد ورد نفس هذا التعبير في شأن الشهداء في سبيل الله ،ذلك أنّ الشهيد عندما يقع على الأرض تقول له الأرض: مرحباً بالروح الطيّبة التي خرجت من البدن الطيّب ،أبشر فإنّ لك ما لا عين رأت ،ولا اُذن سمعت ،ولا خطر على قلب بشر{[3319]} .