ثمّ أشارت الآية الثّانية إلى أوصاف هؤلاء الاُخرى ،فقالت: ( تتجافى جنوبهم عن المضاجع ){[3312]} فيقومون في الليل ،ويتّجهون إلى ربّهم ومحبوبهم ويشرعون بمناجاته وعبادته .
نعم ..إنّ هؤلاء يستيقظون ويحيون قدراً من الليل في حين أنّ عيون الغافلين تغطّ في نوم عميق ،وحينما تتعطّل برامج الحياة العادية ،وتقلّ المشاغل الفكرية إلى أدنى مستوى ،ويعمّ الهدوء والظلام كلّ الأرجاء ،ويقلّ خطر التلوّث بالرياء في العبادة ،والخلاصة: عند توفّر أفضل الظروف لحضور القلب ،فإنّهم يتّجهون بكلّ وجودهم إلى معبودهم ،ويطأطئون رؤوسهم عند أعتاب معشوقهم ،ويخبرونه بما في قلوبهم ،فهم أحياء بذكره ،وكؤوس قلوبهم طافحة بحبّه وعشقه .
ثمّ تضيف: ( يدعون ربّهم خوفاً وطمعاً ) .
وهنا تذكر الآية صفتين اُخريين لهؤلاء هما: «الخوف » و «الرجاء » ،فلا يأمنون غضب الله عزّ وجلّ ،ولا ييأسون من رحمته ،والتوازن بين الخوف والرجاء هو ضمان تكاملهم وتوغّلهم في الطريق إلى الله سبحانه ،والحاكم على وجودهم دائماً ،لأنّ غلبة الخوف تجرّ الإنسان إلى اليأس والقنوط ،وغلبة الرجاء تغري الإنسان وتجعله في غفلة ،وكلاهما عدوّ للإنسان في سيره التكاملي إلى الله سبحانه .
وثامن صفاتهم ،وآخرها في الآية أنّهم ( وممّا رزقناهم ينفقون ) .
فهم لا يهبون من أموالهم للمحتاجين وحسب ،بل ومن علمهم وقوّتهم وقدرتهم ورأيهم الصائب وتجاربهم ورصيدهم الفكري ،فيهبون منها ما يحتاج إليه الغير .
إنّهم ينبوع من الخير والبركة ،وعين فوّارة من ماء الصالحات العذب الصافي الذي يروي العطاشى ،ويغني المحتاجين بحسب استطاعتهم .
نعم ..إنّ أوصاف هؤلاء مجموعة من العقيدة الرصينة الثابتة ،والإيمان القويّ والعشق الملتهب لله ،والعبادة والطاعة ،والسعي والحركة الدؤوبة ،ومعونة عباد الله في كلّ المجالات .
بحث
أصحاب الليل !
ورد لجملة: ( تتجافى جنوبهم عن المضاجع ) تفسيران في الروايات الإسلامية:
أحدهما: تفسيرها بصلاة «العشاء » ،وهو يشير إلى أنّ المؤمنين الحقيقيين لا ينامون بعد صلاة المغرب وقبل صلاة العشاء مخافة أن يغلب عليهم النوم فتفوتهم صلاة العشاء ( لأنّ المعتاد في ذلك الزمان أنّهم كانوا يستريحون في أوّل الليلوكانوا يفرّقون بين صلاتي المغرب والعشاء ،طبقاً لاستحباب التفريق بين الصلوات الخمس ،وكانوا يؤدّون كلا منهما في وقت فضيلتها ) فربّما لم يستيقظوا لصلاة العشاء إذا ما ناموا بعد صلاة المغرب مباشرةً .
وقد روى هذا التّفسير ابن عبّاس عن النّبي ( صلى الله عليه وآله ) طبقاً لنقل الدرّ المنثور ،وكذلك روي في أمالي الصدوق عن الإمام الصادق ( عليه السلام ){[3313]} .
وثانيهما: أنّها فسّرت بالقيام والنهوض من النوم والمضجع لأداء صلاة الليل في أغلب الرّوايات وكلمات المفسّرين:
ففي رواية عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) أنّه قال لأحد أصحابه: «ألا أخبرك بالإسلام أصله وفرعه وذروة سنامه » ؟قال: بلى ،جعلت فداك ،قال: «أمّا أصله فالصلاة ،وفرعه الزكاة ،وذروة سنامه الجهاد » !
ثمّ قال: «إن شئت أخبرتك بأبواب الخير » ؟قال: نعم جعلت فداك ،قال: «الصوم جنّة ،والصدقة تذهب بالخطيئة ،وقيام الرجل في جوف الليل بذكر الله ،ثمّ قرأ: ( تتجافى جنوبهم عن المضاجع ){[3314]} .
وروي في ( تفسير مجمع البيان ) عن معاذ بن جبل ،قال: بينما نحن مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في غزوة تبوك ،وقد أصابنا الحرّ فتفرّق القوم ،فإذا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أقربهم منّي ،فدنوت منه ،فقلت: يا رسول الله ،أنبئني بعمل يدخلني الجنّة ،ويباعدني من النار ،قال: «لقد سألت عن عظيم وإنّه ليسير على من يسّره الله عليه: تعبد الله ولا تشرك به شيئاً ،وتقيم الصلاة المكتوبة ،وتؤدّي الزكاة المفروضة ،وتصوم شهر رمضان » .
قال: «وإن شئت أنبأتك بأبواب الخير » قال: قلت: أجل يا رسول الله ،قال: «الصوم جنّة ،والصدقة تكفّر الخطيئة ،وقيام الرجل في جوف الليل يبتغي وجه الله » ثمّ قرأ هذه الآية ( تتجافى جنوبهم عن المضاجع ){[3315]} .
وبالرغم من عدم وجود المانع من أن يكون للآية معنى واسعاً يشمل البقاء على اليقظة في أوّل الليل لصلاة العشاء ،إضافةً إلى النهوض في السحر لصلاة الليل ،إلاّ أنّ الدقّة في مفهوم ( تتجافى ) تعكس المعنى الثّاني في الذهن أكثر ،لأنّ ظاهر الجملة أنّ الجنوب قد اضطجعت وهدأت في المضاجع ،ثمّ تجافت وابتعدت عنها ،وهذا يناسب القيام آخر الليل لأداء الصلاة ،وبناءً على هذا فإنّ المجموعة الاُولى من الروايات من قبيل شمولية المفهوم وإلغاء الخصوصية .
وبالرغم من أنّ هذه الروايات القليلة تبدو كافية حول أهميّة هذه الصلاة المباركة ،إلاّ أنّ الروايات الإسلامية قد أولت هذه العبادة اهتماما عظيماً قلّ أن تحدّثت بهذا المقدار عن عبادة اُخرى .
لقد اهتمّ أنصار الحقّ ومحبّوه وسالكو طريق الفضيلة كثيراً بهذه العبادة الخالية من الرياء ،والتي تنير القلب وتصفّيه من كلّ الشوائب .
ومن الممكن أن لا يوفّق البعض إلى هذه العبادة المباركة دائماً ،ولكن ما المانع من أن يسعى الفرد إلى نيل هذا التوفيق في بعض الليالي ،وفي الوقت الذي يرخي الليل سدوله ،وتهدأ الأصوات وتنام العيون يكون الجوّ مهيئاً لحضور القلب ،يهبّ إلى مناجاة الله وينوّر قلبه بنور عشق الحبيب ومحبّته{[3316]} .