التّفسير
السّراج المنير !
الخطاب في هذه الآيات موجّه إلى النّبي ( صلى الله عليه وآله ) ،إلاّ أنّ نتيجته لكلّ المؤمنين ،وبذلك فإنّها تكمل الآيات السابقة التي كانت تبحث في بعض وظائف المؤمنين وواجباتهم .
لقد جاءت في الآيتين الأوليين من هذه الآيات الأربع «خمس صفات » للنبي( صلى الله عليه وآله ) وجاء في الآيتين الاُخريين بيان خمس واجبات يرتبط بعضها ببعض ،وتكمل إحداها الاُخرى .
تقول الآية أوّلا: ( إنّا أرسلناك شاهداً ) فهو من جانب شاهد على أعمال اُمّته ،لأنّه يرى أعمالهم كما نقرأ ذلك في موضع آخر: ( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ){[3410]} .وهذا العلم يمكن تحقّقه عن طريق عرض أعمال الأمة على النّبي ( صلى الله عليه وآله ) والأئمّة ( عليهم السلام ) ،وقد مرّ تفصيل ذلك في ذيل الآية المذكورة ( 105 من سورة التوبة ) .
وهو من جانب آخر شاهد على الأنبياء الماضين الذين كانوا شهوداً على أممهم: ( فكيف إذا جئنا من كلّ اُمّة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً ){[3411]} .
ومن جهة ثالثة فإنّ وجودك بما لك من الصفات والأخلاق والبرامج والتعليمات البنّاءة ،إضافةً إلى تاريخك المشرق وأعمالك المشرفة ،شاهد على أحقّية دينك ،وشاهد على عظمة الله وقدرته .
ثمّ تطرّقت الآية إلى الصفتين الثّانية والثالثة فقالت: ( ومبشّراً ونذيراً ) فهو مبشّر للمحسنين بثواب الله اللامتناهي ..بالسلامة والسعادة الخالدة ..بالظفر والتوفيق المليء بالفخر والاعتزاز ..ونذير للكافرين والمنافقين من عذاب الله الأليم ..من خسران كلّ رأسمال الوجود ،ومن السقوط في شراك التعاسة في الدنيا والآخرة .
وكما قلنا سابقاً ،فإنّ البشارة والإنذار يجب أن يقترنا في كلّ مكان ،وأن يكون أحدهما معادل للآخر ،لأنّ نصف وجود الإنسان عبارة عن حبّه لجلب المنفعة ،ونصفه الآخر سعيه لدفع المضرّة عنه ،فالبشارة تشكّل الدافع على القسم الأوّل ،والإنذار على النصف الثاني ،فالمناهج التي تعتمد على جانب واحد لم تدرك حقيقة الإنسان ،ولم تدرك دوافعه وميوله{[3412]} .
وأشارت الآية التالية إلى الصفة الرّابعة والخامسة ،فقالت: ( وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً ) .
ملاحظات
وهنا ينبغي الانتباه إلى عدّة ملاحظات:
1لقد ذكر مقام «الشهادة » ،وكون النّبي ( صلى الله عليه وآله ) شاهداً قبل جميع صفاته الاُخرى ،وذلك لأنّ هذا المقام لا يحتاج إلى مقدّمة سوى وجود النّبي ورسالته ،فعندما يتمّ نصبه في هذا المقام يكون شاهداً من جميع الجهات التي ذكرناها سابقاً ،غير أنّ مقام «البشارة » و «الإنذار » أمر يتحقّق بعد ذلك .
2إنّ الدعوة إلى الله سبحانه مرحلة تأتي بعد البشارة والإنذار ،لأنّ البشارة والإنذار وسيلة لتهيئة الأفراد لقبول الحقّ ،فعندما تتهيّأ هذه الأرضية عن طريق الترغيب والترهيب ،تبدأ مرحلة الدعوة إلى الله سبحانه ،وستكون مؤثّرة في هذه الحالة فقط .
3مع أنّ كلّ أعمال النّبي ( صلى الله عليه وآله ) بإذن الله وأمره ،إلاّ أنّ الدعوة هي الوحيدة التي قيّدت بإذن الله هنا ،وذلك لأنّ أشقّ أعمال الأنبياء وأهمّها هي الدعوة إلى الله سبحانه ،حيث يجب عليهم أن يسوقوا الناس في طريق يخالف ميولهم وشهواتهم ،فيجب أن تستبطن إذن الله وأمره ونصرته في هذه المرحلة ليتمّ تنفيذها ،ومن هنا يتّضح أنّ النّبي ( صلى الله عليه وآله ) لا يملك شيئاً من عند نفسه ،بل كلّ ما يقوله بإذن الله{[3410]} .
4إنّ كون النّبي ( صلى الله عليه وآله ) ( سراجاً منيراً ) إشارة إلى المعجزات وأدلّة أحقّية دعوة الرّسول ،وعلامة صدقها ،فهو سراج منير شاهد بنفسه على نفسه ،يزيح الظلمات ويلفت الأنظار ويجذب القلوب إليه ،فكما أنّ بزوغ الشمس دليل على وجود الشمس ،فكذلك وجوده ( صلى الله عليه وآله ) دليل على كونه حقّاً ،ودليل على أحقّيته .
وممّا يستحقّ الانتباه أنّ لفظة «السراج » قد وردت في القرآن المجيد أربع مرّات ،ثلاث منها في شأن الشمس ،ومن جملتها ما ورد في الآية ( 16 ) من سورة نوح حيث تقول: ( وجعل القمر فيهنّ نوراً وجعل الشمس سراجاً ) .
«السراج » في الأصل يعني المصباح الذي يضاء سابقاً بواسطة الفتيلة والزيت ،وبواسطة الطاقة الكهربائية وأمثالها في العصر الحاضر ،فينبعث ضياؤه ونوره ،إلاّ أنّه اُطلقعلى قول الراغب في مفرداتهعلى كلّ مصدر للنور فيما بعد ،وإطلاقه على الشمس من أجل أنّ نورها ينبع من داخلها ،ولا تكتسب نورها من مصدر آخر كالقمر .
إنّ وجود النّبي ( صلى الله عليه وآله ) كالشمس المنيرة التي تزيح ظلمات الجهل والشرك والكفر عن سماء روح البشر ،لكن كما لا ينتفع العمي بنور الشمس ،وكما تخفي الخفافيش أنفسها عنه حيث لا طاقة لعيونها برؤية هذا النور ،فإنّ عمي القلوب العنودين المتعصّبين لم يستفيدوا ولن يستفيدوا من هذا النور مطلقاً ،وكان أبو جهل وأمثاله يضعون أصابعهم في آذانهم حتّى لا يسمعوا صوت قرأنه ونغمته .
إنّ الظلام يبعث على الخوف والوحشة دائماً ،والنور يبعث الاطمئنان والراحة ،فالسرّاق واللصوص يستغلّون ظلام الليل للسطو على الدور ونهب ما يقدرون عليه ،والحيوانات المفترسة تخرج من حجورها في ظلمة الليل غالباً .
الظلام يسبّب الفرقة ،والنور يسبّب الاجتماع ،ولذلك فإنّنا إذا أسرجنا سراجاً في ليلة مظلمة فستجتمع حوله أنواع الحشرات في فترة قصيرة .
إنّ النور والضياء أساس نمو الأشجار ،ونضج الفواكه والأثمار ،والخلاصة: كلّ نشاطات الحياة ،وتشبيه وجود النّبي ( صلى الله عليه وآله ) بمصدر للنور يبعث على تداعي كلّ هذه المفاهيم في الذهن .
إنّ وجود النّبي ( صلى الله عليه وآله ) أساس الهدوء والإطمئنان ،وفرار لصوص الدين والإيمان ،وهرب الذئاب الضارية الظالمة لمجتمعاتها ،ويوجب هدوء الخاطر ،ونمو روح الإيمان والأخلاق ،والخلاصة: أساس الحياة والحركة ،وتأريخ حياته شاهد حي على هذا الموضوع .