وتشير الآية التالية إلى مطلبين فيما يخصّ الوساوس الشيطانية ،والأشخاص الذين يقعون تحت سلطته ،والأشخاص الذين ليس له عليهم سلطان ،فتقول الآية المباركة: ( وما كان له عليهم من سلطان ) .
إذن فنحن الذين نجيز له الدخول ونعطيه تأشيرة العبور من حدود دولة الفردية إلى داخل قلوبنا .وذلك هو عين ما ينقله القرآن عن لسان الشيطان نفسه ( وما كان لي عليكم من سلطان إلاّ أن دعوتكم فاستجبتم لي ){[3493]} ،ولكن من الواضح أنّه بعد إجابة دعوته من قبل عديمي الإيمان ،وعبيد الهوى ،لا يهدأ له بال ،بل يسعى إلى إحكام سلطته على وجودهم .
لذا فإنّ الآية تؤكّد أنّ الهدف من إطلاق يد إبليس في وسوساته ،إنّما هو لأجل معرفة المؤمنين من غيرهم ممّن هم في شكّ: ( إلاّ لنعلم من يؤمن بالآخرة ممّن هو منها في شكّ ){[3494]} .
بديهي أنّ الله تعالى مطّلع تماماً على كلّ ما يقع في هذا العالم منذ الأزل حتّى الأبد ،وعليه فإنّ جملة «لنعلم » ليس مفهومها أنّ الله تعالى يقول: «بأنّنا لم نكننعلم بالمؤمنين بالآخرة من الذين هم في شكّ منها ،ويجب أن تكون هناك للشيطان وسوسة حتّى نعلم ذلك » كلاّ ،بل المقصود من هذه الجملة هو التحقّق العيني لعلم الله ،لأنّ الله سبحانه وتعالى لا يعاقب أحداً بناءً على علمه بالبواطن ،والأعمال المستقبلية لذلك الشخص ،بل يجب توفّر ميدان للإمتحان ،ومن خلال وساوس الشياطين وهوى النفس يُظهر الإنسان ما بداخلهبكامل الإرادة والإختيارإلى الواقع الفعلي ،ويتحقّق علم الله سبحانه وتعالى عيناً ،لأنّه لولا تحقّق الأعمال بالفعل لا يحصل الإستحقاق للثواب والعقاب .
وبتعبير آخر: فإنّ الثواب والعقاب لا يقع على حسن الباطن أو سوئه ،فلابدّ لما هو موجود بالقوّة أن يتحقّق بالفعل .
ثمّ تختتم الآية بتنبيه للعباد ( وربّك على كلّ شيء حفيظ ) .حتّى لا يتصوّر أتباع الشيطان بأنّ أعمالهم وأقوالهم تتلاشى في هذه الدنيا ،أو أنّ الله ينسى ،كلاّ ،بل إنّ الله يحتفظ بكلّ ذلك إلى يوم الجزاء .