التّفسير
عواقب التّحريض على الخير أو الشرّ:
لقد أشير في الآية السابقة إِلى أنّ كل إِنسان مسؤول عن عمله وعمّا هو مكلّف بأدائه ،ولا يُسأل أي إِنسان عن أفعال الآخرين .
أمّا هذه الآية فقد جاءت لكي تسدّ الطريق أمام كل فهم خاطىء للآية السابقة ،فبيّنت أنّ الإِنسان إِذا حرّض الغير على فعل الخير أو فعل الشر فينال نصيباً من ذلك الخير أو الشر:
( من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كِفْلٌ منها ...) .
وهذا بحدّ ذاتهحثّ على دعوة الآخرين إِلى فعل الخير والتزام جانب الحق ،ونهي الغير عن فعل الشر ،كما تبيّن هذه الآية اهتمام القرآن بنشر الروح الاجتماعية لدى المسلمين ،ودعوتهم إِلى نبذ الأنانية أو الانطوائية ،وإِلى عدم تجاهل الآخرين ،وذلك من خلال التواصي بالخير والحق والتحذير من الشرّ والباطل .
وكلمة «الشّفاعة » الواردة في الآية من «الشّفع » وهو ضم الشيء إِلى مثله ،وقد يكون هذا الضم أحياناً في عمل الإِرشاد والهداية ،أي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،وتكون الشفاعة السيئة أمراً بالمنكر ونهياً عن المعروف .
وإِذا حصلت الشفاعة للعاصين لإِنقاذهم من نتائج أعمالهم السيئة ،فهي بمعنى الإِغاثة للعاصين اللائقين للشفاعة ،بعبارة أُخرى قد تحصل الشفاعة قبل القيام بممارسة الذنب ،وتعني الإِرشاد والنصح ،كما تحصل بعد ارتكاب الذنب أو الخطأ ،وتعنيهناإِنقاذ المذنب أو الخاطىء من عواقب ونتائج جريرته ،وكلا الحالتين يصدق عليهما معنى ضم شيء إِلى آخر .
ومع أنّ مفهوم الآية عام شامل لكل دعوة إِلى الخير أو الشر ،ولكن ورود الآية ضمن آيات الدعوة إِلى الجهاد يجعل معنى الشفاعة الحسنة دعوة النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم )المسلمين إِلى الجهاد ،وحثّهم عليه ،ويجعل معنى الشفاعة السيئة دعوة المنافقين المسلمين إِلى ترك الجهاد وعدم المشاركة فيه ،والآية تؤكد بأن كلا الشفيعين ينال نصيباً من شفاعته .
ثمّ إن ورود كلمة الشفاعة هنا ضمن الحديث عن القيادة ( القيادة إِلى الحسنات أو إِلى السيئات ) قد يكون إِشارة إِلى أن حديث القائد ( قائد خير كان أم قائد شرّ ) لا يدخل قلوب الآخرين إِلاّ إِذا ألغوا كل امتياز يفرقهم عن هؤلاء الآخرين ،فلابدّ لهم أن يكونوا قرناء للناس ومنضمّين إِليهم كي تكون لهم الكلمة النافذة ،وهذه مسألة هامة في تحقيق الأهداف الاجتماعية .
وما ورد عبارة «أخوهم » أو «أخاهم » في الحديث عن الأنبياء والرسل ،ضمن آيات سور الشعراء والأعراف وهود والنمل والعنكبوت ،إِلاّ للإِشارة إِلى هذه المسألة .
والشيء الآخر الذي تجدر الإِشارة إِليه هنا ،هو أنّ القرآن أتى بعبارة «نصيب » لدى الحديث عن الشفاعة الحسنة ،بينما استخدم عبارة «كفل » حين تحدث عن الشفاعة السيئة ،والفرق بين التعبيرين هو أنّ الأُولى تستخدم حين يكون الحديث عن حصّة من الربح والفائدة والخير ،أمّا الثّانية فتستخدم إِذا كان الكلام عن الخسارة والضرر والشرّ ،فالنصيب تعبير عن نصيب الخير ،والكفل تعبير عن حصّة الشرّ{[850]} .
وهذه الآية ،تبيّن نظرة إِسلامية أصيلة إِلى المسائل الاجتماعية ،وتصرّح أنّ الناس شركاء في مصائر ما يقوم به قسم منهم من أعمال عن طريق الشفاعة والتشجيع والتوجيه ،من هنا فكل كلام أو عملبل كل سكوتيؤدي إِلى تشجيع الآخرين على الخير ،فإِنّ المشجع يناله سهم من نتائج ذلك العمل دون أن ينقص شيء من سهم الفاعل الأصلي .
في حديث عن الرّسول( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال: «من أمر بمعروف أو نهى عن منكر أو دل على خير أو أشار به ،فهو شريك ،ومن أمر بسوء أو دل عليه أو أشار به ،فهو شريك » .
ويبيّن هذا الحديث الشريف ثلاث مراحل لدعوة الأشخاص إِلى الخير أو إِلى الشر .
المرحلة الأُولى: الأمر ،وهي الأقوى .
والثّانية: الدلالة وهي الوسطى .
والثّالثة: الإِشارة وهي المرحلة الضّعيفة .
وعلى هذا الأساس فإِن حثّ الآخرين أو تحريضهم على ممارسة فعل معين ،سيجعل للمحرض نصيباً من نتيجة هذا الفعل يتناسب ومدى قوّة التحريض وفق المراحل الثلاث المذكورة .
وبناء على هذه النظرة الإِسلامية ،فإِن مرتكبي الذنب ليسوا هم وحدهم مذنبين ،بل يشترك في الذنب معهم كل الذين شجعوا المرتكبين على ذنبهم ،عن طريق وسائل الإعلام المختلفة أو إِعداد الأجواء المساعدة ،بل حتى عن طريق إِطلاق كلمة صغيرة مشجعة ،وهكذا الذين يقومون بمثل هذه الأعمال على طريق الخيرات ينالون سهمهم من نتائجها .
ويستشف من الأحاديث المروية في تفسير هذه الآية أنّ الشفاعة بكلا جانبيها تطلقأيضاًعلى الدعاء بالخير أو بالشر للآخرين ،وإِنّ الدعاء للآخرين أو عليهم يعتبر نوعاً من الشفاعة لدى الله تعالى .
نقل عن الإِمام الصادق( عليه السلام ) قال: «من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب أستجيب له وقال له الملك: فلك مثلاه ،فذلك النصيب »{[851]} .
ولا ينافي هذا التّفسير ما تطرقنا إِليه سابقاً ،بل يعتبر توسعاً في معاني الشفاعة ،فكل إِنسان يقدم مساعدة لنظيره الإِنسان ،سواء كانت عن طريق الدعوة إِلى فعل الخيرات أو الدعاء له أو عن أي طريق آخر ،فسينال نصيباً من ثمار هذه المساعدة .
وبهذا الأسلوب من المشاطرة الفعلية الخيرة يخلق الإِسلام لدى الإِنسان روحاً اجتماعية تخرجه من أنانيته وإِنطوائيته وتجعله يعتقد أن لن يصيبه ضرر إِذا سعى في حاجة أخيه الإِنسان أو ساعد على تحقيق مصالح غيره ،بل سيناله الخير ،وسيكون شريكاً لأخيه فيما سعى إِلى تحقيقه له من مصالح ومنافع .
والآيةهذهتؤكد أيضاً حقيقة ثابتة أُخرى ،وهي أنّ الله قادر على مراقبة الإِنسان وتدوين ما يقوم به من أعمال ،ثمّ محاسبته عليها ،وإثابته على خيرها ،ومعاقبته على شرها ( وكان الله على كل شيء مُقيتاً ) .
وعبارة «مقيت » مشتقة من «القوت » وهو الغذاء الذي يساعد جسم الإِنسان على البقاء وعلى هذا يكون «مقيت » اسم فاعل من باب افعال ،وتعني هنا الشخص الذي يعطي الآخرين قوتهم وغذاءهم ،وهو بهذه الوسيلة يكون حافظاً لحياتهم ولهذا تأتي كلمة «مقيت » بمعنى «حافظ » والحافظ يمتلك القدرة على الحفظ ،ومن هنا تكون كلمة «مقيت » بمعنى «المقتدر » أيضاً ،كما أن المقتدر يمتلك حساب من يعملون ضمن قدرته فتكون عندئذ كلمة «المقيت » بمعنى «الحسيب » أيضاً ،وقد يكون معنى الكلمة في الآية شاملا لكل هذه المعاني .