سبب النّزول
ورد في بعض التفاسير مثل «مجمع البيان » و«القرطبي » و«روح المعاني » في سبب نزول هذه الآية أنّه حين عاد أبو سفيان ومعه جيش قريش منتصرين في واقعة أُحد توعدوا المسلمين بالمواجهة مرّة أُخرى في موسم «بدر الصغرى » أي وقت إِقامة السوق التّجارية في شهر ذي القعدة الحرام في منطقة بدر ،وحين حان موعد المواجهة دعا النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) المسلمين للإِستعداد والتوجه إِلى المنطقة المذكورة ،إِلاّ أنّ نفراً من المسلمينالذين كانوا إِلى ذلك الحين مازالوا يعانون من مرارة الهزيمة في واقعة أُحدرفضوا التحرك مع النّبي ،فنزلت هذه الآية ،فجدد النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) الدّعوة إِلى المسلمين بالتحرك ،فما تبعه غير سبعين رجلا منهم الذين حضروا موقع المواجهة ،ولكن أبا سفيان الذي كان قد تملكه الرعب من مواجهة المسلمين جبن ولم يحضر إِلى المكان الموعود وعاد الرّسول( صلى الله عليه وآله وسلم ) مع أصحابه سالماً إِلى المدينة .
التّفسير
كل إنسان مسؤول عمّا كلّف به:
بعد ما تقدم من الآيات الكريمة حول الجهاد ،تأتي هذه الآية لتعطي أمراً جديداً وخطيراً إِلى الرّسول الأكرم( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأنّه مكلّف بمواجهة الأعداء وجهادهم حتى لو بقي وحيداً ولم يرافقه أحد من المسلمين إِلى ميدان القتال .لأنّه( صلى الله عليه وآله وسلم ) مسؤول عن أداء واجبه هو ،وليس عليه مسؤولية بالنسبة للآخرين سوى التشويق والتحريض والدعوة الى الجهاد: ( فقاتل في سبيل الله لا تكلّف إلا نفسك وحرض المؤمنين ) .
الآية تشتمل على حكم إِجتماعي مهم يخصّ القادة ،ويدعوهم إِلى إِلتزام الرأي الحازم والعمل الجاد في طريقهم ومسيرتهم نحو الهدف المقدس الذي يعملون ويدعون من أجله ،حتى لو لم يجدوا من يستجيب لدعوتهم ،لأنّ استمرار الدعوة غير مشروط باستجابة الآخرين لها ،وأي قائد لا يتوفر فيه هذا الحزم فهو بلا ريب عاجز عن النهوض بمهام القيادة ،فلا يستطيع أن يواصل الطريق نحو تحقيق الأهداف المرجوة خاصّة القادة الإِلهيون الذين يعتمدون على الله ...مصدر كل قدرة وقوّة في عالم الوجود ،وهو سبحانه أقوى من كل ما يدبّره الأعداء من دسائس ومكائد بوجه الدّعوة ،لذلك تقول الآية: ( عسى الله أن يكفّ بأس الذين كفروا والله أشد بأساً{[846]} وأشدّ تنكيلا{[847]} ) .
معنى كلمتي «عسى » و«لعل » في كلام الله:
في كلمة «عسى » طمع وترج ،وفي كلمة «لعل » طمع وإِشفاق ،هنا يتبادر إِلى الذهن سؤال هو: لو كان التمني والترجي جائزين بالنسبة للإِنسان لعدم علمه بالغيب ولمحدودية قدرته وعجزه عن فعل وإِنجاز كل ما يريد ،فكيف يجوز استخدامهما من قبل الله العالم بالغيب والشهادة والقادر على كل شيء ؟!والطمع والترجي يكونان في جاهل عاجز والله منزّه عن ذلك ؟
ذهب كثير من العلماء إِلى تأويل معنى كلمتي «عسى » و«لعل » الواردتين في كلام الله فقالوا: بأنّهما إذا وردتا في كلامه سبحانه عزّ وجل فإِنّهما تفقدان معانيهما الحقيقية الأصلية وتكتسبان معاني جديدة ،وقالوا: إِن كلمة «عسى » إِذا أتت في كلام الله جاءت بمعنى «الوعد » وإِن كلمة «لعل » تأتي في كلامهعزّ من قائلبمعنى «الطلب » .
والحق أنّ هاتين الكلمتين لا يتغير معناهما إِذا وردتا في كلام الله ،ولا يستلزمان الجهل أو العجز ،لكن استخدامهما يأتي في مواضع يكون الوصول فيها إِلى الهدف بحاجة إِلى مقدمات عديدة ،فإِن لم تتوفر إِحدى هذه المقدمات أو بعضها لم يمكن القطع بتحقق ذلك الهدف ،بل تأتي مسألة تحقق الهدف على شكل احتمال ،ويكون الحكم في هذا المجال احتمالياً .
على سبيل المثال يقول القرآن الكريم: ( وإِذا قرىء القرآن فاستمعوا له وانصتوا لعلكم ترحمون ){[848]} ولا يعني هنا أنّ رحمة الله تشمل كل من يستمع أو ينصت إِلى القرآن أثناء قراءته ،بل أنّ الإِستماع والإِنصات يكونان مقدمة من مقدمات نيل رحمة الله ،وهناك مقدمات أُخرى مثل فهم القرآن وتدبر آياته والعمل بأحكامه .
ويتّضح من هذا أنّ تحقيق مقدمة واحدة لا يكفي لحصول النتيجة المطلوبة ولا يمكن الجزم أو القطع بحتمية تحقق النتيجة ،بل كل ما يمكن الحكم به هو احتمال حدوثها ،والحقيقة إن مثل هذه الكلمات حين تأتي في كلام الله ،يكون الهدف منها تنبيه السامع إِلى وجود مقدمات وشروط أُخرى يجب تحقيقها للوصول إِلى الهدف بالإِضافة إِلى الشرط أو المقدمة المذكورة المصرح بها في الكلام .
وقد تبيّن لنا أنّ نيل رحمة الله لا يتحقق فقط بالإِستماع والإِنصات إِلى القرآن فقط ،بل يجب لنيل هذه الرحمة توفير المقدمات الأخرى لذلك .
من هنا فإِنّ هذه الآية التي نبحث فيها تقول إِن قدرة الكفار وقوتهم لا تزول ولا تضمحل بمجرّد دعوة المؤمنين إِلى الجهاد وترغيبهم فيه ،بل يجب هناأيضاًأن يسعى المؤمنون لتوفير المقدمات الأخرى للقضاء على قدرة الكفار ،منها إِعداد وسائل القتال والإِلتزام بالخطة التي يضعها النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) والسير عليها من أجل الوصول إِلى الهدف النهائي .
وهكذا يتبيّن لنا أنّ لا ضرورة لصرف كلمتي «عسى » و«لعل » وأشباههما عن معانيها الحقيقية متى ما وردت في كلام الله تعالى{[849]} .