( أسباب السموات فاطلع إلى إله موسى وإنّي لأظنّه كاذباً ) .
ولكن ماذا كانت النتيجة ؟!( كذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل وما كيد فرعون إلاّ في تباب ) .
«الصرح » في الأصل تعني الوضوح ،و«التصريح » بمعنى التوضيح ،ثمّ عُمّمَ معنى الكلمة على الأبنية المرتفعة والقصور الجميلة العالية ،وذلك لأنّها واضحة ومميّزة بشكل كامل ،وقد ذكر هذا المعنى العديد من المفسّرين واللغويين .
«تباب » تعني الخسارة والهلاك .
إنّ أول ما يطالعنا هنا هو السؤال عن الهدف الذي كان فرعون يرغب بتحقيقه من خلال عمله هذا .
هل كان فرعون بهذا المقدار من الغباء والحماقة والسذاجة بحيث يعتقد أن إله موسى موجود فعلا في مكان ما من السماء ؟وإذا كان موجوداً في السماء ،فهل يستطيع الوصول إليه بواسطة إقامة بناء مرتفع يعتبر ارتفاعه تافهاً إزاء جبال الكرة الأرضية ؟
إنّ هذا الاحتمال ضعيف للغاية ،ذلك لأنّ فرعون بالرغم من غروره و تكبره ، فقد كان يمتاز بالذكاء والقدرة السياسية التي أهّلته للسيطرة على شعب كبير لسنين مديدة من خلال أساليب القهر والقوة والخداع .
لذلك كلّه نرى الموقف يدعونا إلى تحليل هذا التصرف الفرعوني لمعرفة دواعيه وأهدافه الشيطانية .
فمن خلال عملية التأمّل والتمحيص ،يمكن أن تنتهي إلى ثلاثة أهداف كانت تكمن وراء هذا التصرّف والأهداف هذه هي:
أولا: أراد فرعون أن يختلق وضعاً يعمد من خلاله إلى إلهاء الناس وصرف أذهانهم عن قضية نبوة موسى( عليه السلام ) وثورة بني إسرائيل .وقضية بناء مثل هذا الصرح المرتفع يمكن أن تحوز على اهتمام الناس ،وتهيمن على اهتماماتهم الفكرية ،وبالتالي إلى صرفهم عن القضية الأساسية .
وفي هذا الإطار يلاحظ بعض المفسّرين أن فرعون خصص لبناء صرحه مساحة واسعة من الأراضي ،ووظّف في إقامته خمسين ألفا من العمال والبنائين المهرة ،بالإضافة إلى من انشغل بتهيئة وسائل العمل والتمهيد لتنفيذ المشروع ،وكلما كان البناء يرتفع أكثر كلّما ازداد تأثيره في الناس ،وأخذ يجلب إليه الاهتمام والأنظار أكثر ،إذ أصبح الصرح حديث المجالس ،والخبر الأوّل الذي يتناقله الناس ،وفي مقابل ذلك يتناسون قضية انتصار موسى( عليه السلام ) على السحرةولو مؤقتا خصوصاً مع الأخذ بنظر الاعتبار ذلك الاهتزاز العنيف الذي ألحق بجهاز فرعون وأوساط الناس .
ثانياً: استهدف فرعون من خلال تنفيذ مشروع الصرح اشتغال أكبر قطاع من الناس ،وعلى الأخص العاطلين منهم ،لكي يجد هؤلاء في هذا الشغل عزاءٌولو مؤقتاً عن مظالم فرعون و ينسون جرائمه وظلمه .و من ناحية ثانية فإنّ اشتغال مثل هذا العدد الكثير يؤدي إلى ارتباطهم بخزانة فرعون وأمواله ،وبالتالي ارتباطهم بنظامه وسياساته !
ثالثاً: لقد كان من خطة فرعون بعد انتهاء بناء الصرح ،أن يصعد إلى أعلى نقطة فيه ،ويرمق السماء ببصره ،أو يرمي سهماً نحو السماء ،ويرجع الى الناس فيقول لهم: لقد انتهى كلّ شيء بالنسبة لإله موسى .والآن انصرفوا إلى أعمالكم براحة بال !!
أما بالنسبة إلى فرعون نفسه ،فقد كان يعلم أنّه حتى لو ارتقى الجبال الشامخات التي تتطاول في علوها على صرحه ،فإنّه سوف لن يشاهد أي شيء آخر يفترق عمّا يشاهده وهو يقف على الأرض المستوية يتطلع نحو السماء !
والطريف في الأمر هنا أنّ فرعون بعد قوله: ( فاطلع إلى موسى ) رجع خطوة إلى الوراء فنزل عن يقينه إلى الشك ،حيث قال بعد ذلك: ( وإنّي لأظنه كاذباً ) إذ استخدم تعبير «أظن » !
والجدير بالإشارة هنا أنّ القرآن الكريم من خلال قوله تعالى: ( كذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل وما كيد فرعون إلاّ في تباب ) ذكر ثلاث قضايا ذات محتوى كبير بجمل قصيرة ،حيث قال أولا: إن السبب الرئيسي في انحراف فرعون عن جادة الصواب يعود إلى تزيين عمله القبيح في نظره بسبب غروره و تكبره .
ثم تناول بعد ذلك نتيجة ذلك متمثلةً بالضلال عن طريق الحق والهدى والنور .
وفي الجملة الثّالثة لخصت الآية مآل مخططات فرعون ،هذا المآل الذي تمثل بالفشل الذريع والتباب والخسران .
طبعاً ،يمكن للخطط السياسية والمواقف المضلّلة أن تخدع الناس شطراً من الزمان ،وتؤثر فيهم لفترة من الوقت ،إلاّ أنّها تنتهي بالفشل على المدى البعيد .
فقد ورد في بعض الرّوايات أنّ «هامان » قد زاد في ارتفاع الصرح الفرعوني إلى الدرجة التي باتت الرياح الشديدة مانعاً عن الإستمرار بالعمل وعندها اعتذر هامان لفرعون عن الإستمرار بالبناء .
ولكن لم تمض فترة وجيزة من الزمن حتى حطمت الرياح الشديدة ذلك البناء{[3931]} .
واتضح أن قوة فرعون متعلقة في ثباتها بالرياح .