ولإثبات قدرته سبحانه وتعالى ،وأنّ كلّ خير منه ،تقول الآية: ( إلاّ ما شاء اللّه إنّه يعلم الجهر وما يخفى ) .
ولا يعني هذا الاستثناء بأنّ النسيان قد أخذ من النبيّ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وطراً ،وإنّما هو لبيان أنّ قدرة حفظ الآيات هي موهبة منه سبحانه وتعالى ،ومشيئته هي الغالبة أبداً ،وإلاّ لتزعزعت الثقة في قول النبيّ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
وبعبارة أخرى ،إنّما جاء الاستثناء لتبيان الفرق بين علم اللّه تعالى الذاتي ،وعلم النبيّ( صلى الله عليه وآله وسلم ) المعطى له من بارئه .
والآية تشبه إلى حد ما ما جاء في الآية ( 108 ) من سورة هود ،بخصوص خلود أهل الجنّة: ( وأمّا الذين سعدوا ففي الجنّة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلاّ ما شاء ربّك عطاءً غير مجذوذ ) .
ف ( خالدين فيها ) دليل على عدم خروج أهل الجنّة منها أبداً ،فإذن ..عبارة ( إلاّ ما شاء ربّك ) تكون إشارة إلى حاكمية الإرادة والقدرة الإلهية ،وارتباط كلّ شيء بمشيئته جلّ وعلا ،سواءً في بداية الوجود أم في البقاء .
وممّا يشهد على ذلك أيضاً ..أنّ حفظ بعض الأمور ونسيان أخرى تعتبر حالة طبيعية بين بني آدم ،ولكنّ اللّه تعالى ميزّ حبيبه المصطفى بأن جعل فيه ملكة حفظ جميع آيات القرآن ،والأحكام والمعارف الإسلامية ،حينما خاطبه ب: ( سنقرئك فلا تنسى ) .
وقيل: أريد بهذا الاستثناء تلك الآيات التي نسخ محتواها ونسخت تلاوتها أيضاً .
ولكن لعدم ثبوت وجود هكذا آيات ،فلا يمكننا الاعتماد على هذا القول الآنف أعلاه .
وقيل أيضاً: إنّ الاستثناء يختص بقراءة بعض الآيات ،فعلى هذا يكون مفهوم الآية هو: إنّنا سنقرئك آيات القرآن إلاّ بعض الآيات التي أراد اللّه عزّ وجلّ أن تبقى في مخزون علمه ..
ولا يتوافق هذا القول مع سياق الآية .
أمّا جملة: ( إنّه يعلم الجهر وما يخفى ) فلبيان علّة أمر تضمّنته جملة ( سنقرئك ) ،أي: إنّ العليم جلّ اسمه عالم بجميع حقائق الوجود ،أمّا ما يوحيه إليك ،فهو ما يحتاج إليه البشر ،ويصلك بالكامل دون أن ينقص منه شيء .
وقيل أيضاً: إنّ مراد الآية هو: على النبيّ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن لا يتعجل في أخذ الوحي ،وأنّ لا يخشى نسيانه ،فاللّه الذي يعلم الاُمور ما خفي منها وما ظهر ،سوف لا يتركه وقد تعهد له بالحفظ .
وعلى أيّة حال ،فمن معاجز النبيّ الأكرم( صلى الله عليه وآله وسلم ) ،قابليته على حفظ الآيات والسور الطوال بعد تلاوة واحدة من جبرائيل( عليه السلام ) ،دون أنّ ينسى منها شيئاً أبداً .