السجن ساحة للدعوة
ودخل يوسف السجن بروحيّة الإنسان المؤمن الذي لا يعتبر السجن مشكلةً ومأساةً ،بل يرى فيه موقع الانتصار على النوازع الجسدية ،وعلى الضغوط الخارجية التي تتحدى فيه إرادة الإيمان ،وقوّة الالتزام .وفي هذا الجوّ كان يفكر بأنّ عليه إلاّ يتجمّد في مشاعر الوحشة والفراغ لينتهي إلى حالة كئيبة من الضياع الروحي ،بل أن يستثمر فرص الحركة التي تتيحها الساحة له .وفكّر أنه ليس الوحيد الذي يدخل السجن ،فهناك من دخلوا قبله ،وهناك من سيدخلون بعده ،وفيهم الكافرون والضالون ،وحدّد دوره بأن يستفيد من الأجواء الهادئة التي يعيشها السجين ،والمشاعر البائسة التي يخضع لها ،والآمال الطيبة التي يرجوها في يقظته ونومه ،والحالات النفسية الصعبة التي يحتاج فيها إلى من يساعده في مواجهتها مما يفسح المجال للهدوء في فكره ،والحياد في موقفه ،الأمر الذي يسهل على يوسف دخول قناعاته وتغييرها على أساس الحق والصواب ،وذلك هو شأن المؤمن الداعية الذي يعيش همّ الدعوة إلى الله ،وهداية الناس إلى طريق الحق ،فلا يترك فرصةً إلا ويستفيد منها في حركته نحو الهدف الكبير ،فهو في التفاتةٍ دائمةٍ لما حوله ،ولمن حوله ،وترقّب مستمر للأجواء الملائمة التي تفتح له قلوب الناس وعقولهم على الحق .
{وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ} فتعرّف إليهما ،وتعرّفا إليه ،ونشأت بين الثلاثة صحبةٌ وإلفةٌ ،لما تفرضه طبيعة الوجود في السجن من حاجة إلى من يستريح إليه السجين ويرتاح للحديث معه ،ليخفّف من وحشته ،وهكذا بدأ الحديث في شؤونٍ كثيرةٍ متنوّعة ،وكان هذان الشخصان قد شاهدا في منامهما ،حلمين غريبين أثارا في نفسيهما القلق والحيرة ،لأنهما لم يستطيعا فهم السرّ الذي يكمن خلفهما فأحبّا أن يحدّثا يوسف عنهما ،فلعلهما يجدان لديه التفسير الواضح الذي يكشف لهما هذا الغموض ،فقد لاحظا امتلاكه لفكرٍ هادىٍء ،وعقلٍ متحركٍ ،وشخصيةٍ حكيمةٍ ،وهذا ما جعلهما يمنحانه الثقة الكبيرة .
إحسانه جذبهما إليه
{قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} ولم أستطع معرفة المضمون الواقعي لذلك في ما يحيط بحركة الحياة من حولي ،{وَقَالَ الآخر إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ} فما معنى الخبز ؟وما سرّ حمله على الرأس ؟وماذا يمثل أكل الطير منه من رمز ؟فهل هو رمز للنعمة أو للعطاء ،أو هو رمزٌ للنقمة والفناء ؟{نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ} لأن للأحلام تأثيراً في الكشف عن حركة الإنسان في المستقبل ،بما توحيه من تشاؤم أو تفاؤل يعرّف الإنسان كيف يحدد اتجاه موقفه ،{إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} الذين يحبون أن يعطوا من مواقع ما يعرفون ،فلا يبخلون بالمعرفة على من يحتاج إليها ،لأن ذلك هو معنى الإحسان الذي ينطلق من حسّ الخير في الإنسان ،تجاه من حوله .
وقد جاء في بعض الكلمات التفسيرية عن الإمام جعفر الصادق( ع )في ما روي عنهفي قوله:{إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} قال: «كان يقوم على المريض ،ويلتمس المحتاج ،ويوسّع على المحبوس » .وربما كانت هذه الأمور وما يدخل في جوّها الأخلاقي ،هي التي جعلتهما ينجذبان إليه ،وينفتحان عليه هذا الانفتاح الروحي الذي يعيش فيه الإنسان جوع المعرفة إلى فكر العارفين .
توسل التأويل لهداية الفَتَيان
ولم يكن ليوسف شأنٌ بالجانب الذاتي لما سألاه عنه ،ولم يكن في صدد الإيحاء بإمكاناته العلمية في تأويل الأحلام ،أو في غيره من الأمور ،بل كان يتوسّل هدايتهما إلى الصراط المستقيم من خلال ذلك ككل داعيةٍ إلى الله ،يتحسس ضرورة استخدام كل طاقاته في سبيل الدعوة والهداية ،وتحريك علاقاته بالناس ،في هذا الاتجاه .وهذا ما أراد يوسف أن يثيره أمامهما عما وهبه الله من إمكانات علميّة ،تمكنه من استيحاء الأحلام ومعرفة ما تحمله من أسرار المستقبل وخفاياه ،أو في استلهام الإشراق الروحي الذي أودعه الله في قلبه ،واستكشاف آفاق المستقبل في حياة الناس .