/م36
{ ودخل معه السجن فتيان} هذا عطف على مفهوم ما قبله أي فسجنوه ودخل معه السجن بتقدير الله الخفي الذي يعبر عنه جاهلوه بالمصادفة والاتفاق:فتيان مملوكان تبين فيما بعد أنهما من فتيان ملك مصر .روي عن ابن عباس أن أحدهما خازن طعامه والآخر ساقيه ، فماذا كان من شأنه معهما ؟{ قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا} أي رأيت في المنام رؤيا واضحة جلية كأني أراها في اليقظة الآن ، وقراءة ابن مسعود وأبي في الشواذ"أعصر عنبا "تفسير لا قرآن ، وما كل العنب يعصر لأجل التخمير فما نقل من أن عرب غسان وعمان يسمون العنب خمرا فمحمول على هذا النوع المخصوص منه لكثرة مائه وسرعة اختماره ، دون ما يؤكل في الغالب تفكها لكثرة حجمه واكتناز شحمه وقلة مائه ، ولكل منها أصناف .
{ وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه} الطير جمع واحده طائر ، وتأنيثه أكثر من تذكيره ، وجمع الجمع طيور وأطيار{ نبئنا بتأويله} أي قال له كل واحد منهما نبئني بتأويل ما رأيت ، أي بتفسيره الذي يؤول إليه في الخارج إذا كان حقا لا من أضغاث الأحلام ، ويصح إعادة الضمير المفرد على الكثير كاسم الإشارة بمعنى المذكور أو ما ذكر ، ومنه قول الراجز:
فيها خطوط من سواد وبلق*** كأنه في الجسم توليع البهق{[1794]}
{ إنا نراك من المحسنين} عللوا سؤالهم إياه عن أمر يهمهم ويعنيهم دونه ، برؤيتهم إياه من المحسنين بمقتضى غريزتهم الذين يريدون الخير والنفع للناس وإن لم يكن لهم فيه منفعة خاصة ولا هوى ، وقيل من المحسنين لتأويل الرؤى ، وما قالا هذا القول إلا بعد أن رأيا من سعة علمه وحسن سيرته مع أهل السجن وما وجه إليه وجوههما ، وعلق به أملهما .وهذا من إيجاز القرآن الخاص به .
افترض يوسف عليه السلام ثقة هذين السائلين بعلمه وفضله وإصغائهما لقوله واهتمامهما بما يسمعان من تأويله لرؤاهما فبدأ حديثه بما هو أهم عنده وهو دعوتهما وسائر من في السجن إلى توحيد الله عز وجل ، فعلم من هذا أن وحي الرسالة جاءه بعد دخول السجن فحقق قوله{ رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه} [ يوسف:33] كما أن وحي الإلهام جاءه عند إلقائه في غيابة الجب على ما سبق ، وحكمة هذا من ناحيته عليه السلام ظاهرة بما بيناه من أن الله تعالى جعل له في كل محنة ظاهرة ، منحة باطنة ، وفي كل بداية محرقة ، نهاية مشرقة ، تحقيقا لما فهمه أبوه من اجتباء ربه له الخ .وحكمته من ناحية دعوة الدين أن أقوى الناس وأقربهم استعدادا لفهمها والاهتداء بها:هم الضعفاء والمظلومون والفقراء ، وأعتاهم وأبعدهم عن قبولها هم المترفون والمتكبرون ، بدأ يوسف بالدعوة بعد مقدمة في بيان الآية الدالة على صدقه والثقة بقوله وهي إظهار ما من الله به عليه من تعليمه ما شاء من أمور الغيب وأقربها إلى اقتناعهم ما يختص بمعيشتهم ، فكان هذا ما يقتضيه المقام وتوجيه الرسالة من جوابهم ، وهو:قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون ( 37 )}