التنوع حقيقة وجودية
{وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} ،وأودع في تكوينكم العقلي والجسدي سر الهداية ،بحيث تصبح أمراً قهرياً ،لا حرية لكم في اختياره ،وبذلك تتساوى درجة الهداية بين جميع الناس ،فتشكلون أمة واحدة ،في كل شيء ،لا تختلف في العقيدة ولا في الشريعة ،ولا في أي شأن من شؤون الحياة ،ولكن الله لم يشأ للحياة كلها أن تسير على وتيرةٍ واحدة ،فجعل من مخلوقاته ما يتحرك غريزياً إلى دوره المحدد في الحياة ،وخلق منها ما ينطلق من القوانين المودعة في سرّ وجوده ،والتي تتحرك به تجاه التكامل مع نظام الوجود ،وخلق الإنسان وزوده بالعقل القادر على إدراك الحسن والقبح ،وهيّأ له الحواس التي يستطيع بها معرفة طبيعة الأشياء التي تموِّن العقل بموادّ الفكر ،ثم أعطاه الإرادة التي ينفذ من خلالها إلى ما يدركه العقل من حسن الأشياء ،ويبتعد بها عما يدركه من قبحها ،وجعل للإنسان حرية الاختيار بين خط الهدى وخط الضلال ،فقد يختار الهدى ؛لأن عقله غلب شهوته ،وقد يختار الضلال ؛لأن الشهوة حجبت عن العقل وضوح الرؤية .
{وَلكِن يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ} ،بما فتحه لهم من إمكانات الهدى والضلال ذاتياً وموضوعياً ،حيث لا يأتي الضلال قهراً نتيجة الإرادة التكوينية ،ولكنه يأتي عبر الوسائل التي تؤدي إليه ،في ما جعله من سببيّة بين الضلال ومقدماته التي خولهم اختيارها وجعل أمرها بأيديهم ،والأمر نفسه في الهدى .وهكذا فإن نسبة الضلال والهدى إلى الله لا تلغي الدور المباشر الفاعل للإنسان الذي يملك إرادة الهدى باختيار وسائله ،وإرادة الضلال باختياره لعناصر الضلال ،{وَلَتُسْألُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} ؛لأن الحرية التي تملكونها في ممارسة دوركم الفكري والعملي هي أساس المسؤولية ،التي تواجهون حسابها أمام الله ،ولولا الحرية في الإرادة ،في الرفض والقبول ،لكانت المسؤولية غير ذات معنىً في ميزان العدل الإلهي ،الذي لا يمكن أن يجبر الإنسان على أمرٍ ثم يعاقبه عليه .