وهناك ظاهرة أخرى معكوسة يجسدها قوله تعالى:{وَإِذَآ أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُواْ بِهَا} وهي الظاهرة التي يعيش الناس فيها الرحمة في أجواء العافية والرخاء ،حتى يستسلموا للأمل الكبير في استمرارها ودوامها ،ويعيشوا النشوة اللذيذة في الأحاسيس الحلوة التي تثيرها في حياتهم ،حيث لم يدرسوا واقع الحياة المتغير الذي لا تثبت فيه الأمور على حال من الأحوال ،ليعرفوا أن العافية قد تختزن في مستقبلها البلاء ،وأن الرخاء قد يتحوّل إلى الشدّة ،فيدهمهم عندها البلاء في هزة عاصفة تفاجئهم من حيث لا يدرون أو يتوقعون .
القنوط عند الضيق والبلاء
{وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} في ما يمكن أن تتحول إليه أعمالهم وعلاقاتهم وأوضاعهم المنحرفة السيّئة ،إلى مشاكل ومصائب وأحزان وآلام ،على أساس أن الله ربط النتائج السلبية التي تعرض للإنسان في الدنيا بالخصوصيات الكامنة في ممارساته العامة والخاصة ،تماماً كما ربط النتائج السلبية في الآخرة بالواقع السلبي في الدنيا ،مع فارق بارز بينهما ،وهو أن الارتباط بين المقدمات والنتائج في الدنيا عضويٌّ تكوينيٌّ ،بينما هو في الآخرة حكم إلهيٌّ جزائيٌّ .
وهكذا يندفع الإنسان ليواجه نتائج أعماله المنحرفة في الدنيا ،فلا يصبر ولا يفكر ،ليواجه الموقف من موقع إرادة التغيير وحركة التصحيح ،بل يعمل على أن يسقط تحت تأثير انفعالاته السلبية اليائسة ،لأنه لا يملك القاعدة الفكرية الإيمانية التي يرتكز عليها في موقفه ،ليتحرك شعوره من خلالها في عملية تماسك وتوازن وثبات .
وفي ضوء هذه الحالة الإنسانية المهتزة ،كان هؤلاء الناس الذين إذا أصابتهم سيئة من سيّئات أعمالهم ،فأسقطت كل فرح الحياة في قلوبهم{إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} ويتساقطون في مواقع اليأس الذي تنهار معه الإِرادة ،وتهتز فيه الروح .