أمّا آخر آية من الآيات محل البحث ،فهي ترسم طريقة تفكير وروحية هؤلاء الجهلة الأغبياء الذين يقنطون ويحزنون لأقل مصيبة ،فتقول: ( وإذا أذقنا الناس رحمةً فرحوا بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون ) .
في حين أنّ المؤمنين الصادقين هم الذين لا يغفلون عن ذكر الله عند النعم ،ولا يقنطون عند الشدائد والمصيبة ،إذ هم يشكرون الله على نعمه ،ويرون المصيبة امتحاناً واختباراً ،أو يعدونها نتيجة أعمالهم ،فيصبرون ويتّجهون إلى الله تعإلى .
فالمشركون يعيشون دائماً بين «الغرور » و «اليأس » ،أمّا المؤمنون فهم بين «الشكر » و «الصبر » .
ويستفاد ضمناً من هذه الآية بصورة جيدة أنّ قسماً من المصائب والابتلاءات التي تحل بالإِنسان هيعلى الأقلنتيجة أعماله وذنوبه ،فالله يريد أن ينبههم ويطهرهم ويلفتهم إليه .
و ينبغي الالتفات إلى أنّ جملة ( فرحوا بها ) ليس المراد منها هنا السرور بالنعمة فحسب ،بل السرور المقرون بالغرور ونوع من السكر والنشوة ،وهي الحالة التي يكون عليها الأراذل عندما تتهيأ لهم وسائل العيش والحياة ،وإلاّ فإن السرور المقرون بالشكر والتوجه نحو الله ليس أمراً سيئاً ،بل هو مأمور به ( قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا ){[3218]} .
والتعبير ( بما قدمت أيديهم ) الذي ينسب المعاصي إلى الأيدي ،هو لأنّ أكثر الذنوب والأعمال يكون على يد الإِنسان ،وإن كانت هناك ذنوب يكتسبها القلب أو البصر أو السمع ،إلاّ أن كثرة الأعمال التي تصدر عن اليد استدعى هذا التعبير .
وهنا ينقدح هذا السؤال ،وهو: ألا تخالف هذه الآية ،الآية الثّالثة والثلاثين «ما قبل آيتين » لأنّ الكلام في هذه الآية عن يأسهم عند المصائب ،في حين أن الآية السابقة تتحدث عن توجههم إلى الله عند بروز المشاكل والشدائد .والخلاصة ،إن واحدة من الآيتين تتحدث عن «الرجاء » والأُخرى عن «اليأس » ؟
لكن مع الالتفات إلى مسألة دقيقة يتّضح جواب هذا السؤال ،وذلك أن الآية المتقدمة كان الكلام فيها عن «الضر » أي الحوادث الضارة كالطوفان والزلزلة والشدائد الأُخرى التي تصيب عامة الناس «الموحدين منهم والمشركين » .فيتذكرون الله في هذه الحال ،وهذا واحد من دلائل الفطرة على التوحيد .
أمّا في الآية محل البحث فالكلام على نتائج المعاصي واليأس الناشئ منها ،لأنّ بعض الأفراد إذا عملوا صالحاً أصبحوا مغرورين وحسبوا أنفسهم مصونين من عذاب الله ،وحين يعملون السيئات وتحلّ بهم العقوبة فيغم وجودَهم اليأسُ من رحمة الله ،فكلتا الحالين «العُجب والغرور » و «اليأس والقنوط من رحمة الله » مذمُومتان !
فعلى هذا تكون كلّ آية من الآيتين قد تناولت موضوعاً منفصلا عن الآخر .