المفردات:
تلك: إشارة إلى قصة نوح .
من أنباء الغيب: من بعض أخبار ما غاب عنك .
التفسير:
49{تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} .
أي: هذه قصة نوح وقومه من أخبار الغيب التي لا يعلم دقائقها وتفاصيلها أحد سوانا ؛أعلمناك بها عن طريق وحينا الصادق الأمين ؛ما كنت تعلمها أنت ولا قومك بهذه الصور الصادقة ،الحكيمة ،الخالية من الأساطير والأكاذيب .
{من قبل هذا} .أي: من قبل هذا الوقت الذي أوحيناها إليك فيه .
{فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} .أي: فاصبر على تبليغ الرسالة إلى قومك ،كما صبر نوح عليه السلام ؛فالعاقبة الحسنة بالنصر والتأييد للمتقين الذين راقبوا الله ،والتزموا بأوامره ،واجتنبوا نواهيه ،وهذه الآية تعقيب كريم على قصة نوح ،وامتنان على الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ،وبيان أنه علم بها عن طريق الوحي ،وإرشاد وبشرى بالنصر وحسن العاقبة .
ما يؤخذ من القصة
1جهاد نوح الطويل الذي استمر 950 عاما .
2هلاك الكافرين ونجاة المؤمنين .
3قوانين الله عادلة فلا محاباة ولا استثناء ،وهو سبحانه يجزي الناس في الدنيا والآخرة بإيمانهم وأعمالهم ،لا بأنسابهم .
4وجوب صبر الآباء الصالحين ،وتفويض أمرهم لله عند انحراف أبنائهم .
فقد روي: أن ابنا لمالك بن أنس ارتكب أمرا لا يليق بمسلم ،فعلم بذلك مالك ؛فقال:"الأدب أدب الله ؛لا أدب الآباء والأمهات ،والخير خير الله ؛لا خير الآباء والأمهات ". 43
5أن من يغتر بنسبه ولا يعمل ما يرضي ربه ،ويزعم: أنه أفضل من العلماء العاملين ،والأولياء الصالحين ؛فهو جاهل بكتاب ربه ،الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .
هل كان الطوفان عاما
جاء في تفسير المراغي:
ما يؤخذ من القصة أن الأستاذ الإمام محمد عبده سئل في ذلك ؛فأجاب جوابا طويلا خلاصته ما يأتي:
ليس في القرآن نص قاطع على عموم الطوفان ولا على عموم رسالة نوح عليه السلام ،وما ورد من الأحاديث على فرض صحة سنده فهو آحاد لا يوجب اليقين ،والمطلوب في تقرير مثل هذه الحقائق هو اليقين لا الظن إذا عد اعتقادها من عقائد الدين .
وأما المؤرخ ،ومريد الإطلاع فله أن يحصل من الظن ما ترجحه عنده ثقته بالراوي أو المؤرخ أو صاحب الرأي ،وما يذكره المؤرخون والمفسرون في هذه المسألة لا يخرج عن حد الثقة بالرواية أو عدم الثقة بها ،ولا تتخذ دليلا قطعيا على معتقد ديني ؛من أجل هذا كانت هذه المسألة موضوع نزاع بين أهل الأديان وأهل النظر في طبقات الأرض ،وموضوع خلاف بين مؤرخي الأمم .
فأهل الكتاب ،علماء الأمة الإسلامية: على أن الطوفان كان عاما لكل الأرض ،ووافقهم على ذلك كثير من أهل النظر ،واحتجوا على رأيهم بوجود بعض الأصداف والأسماك المتحجرة في أعالي الجبال ؛لأن هذه الأشياء مما لا تتكون إلا في البحر ،فظهورها في رءوس الجبال دليل على أن الماء صعد إليها مرة من المرات ،ولن يكون ذلك حتى يكون قد عم الأرض .
ويزعم غالب أهل النظر من المتأخرين: أن الطوفان لم يكن عاما ،ولهم على ذلك شواهد يطول شرحها ،غير أنه لا يجوز لمسلم أن ينكر قضية: أن الطوفان كان عاما لمجرد احتمال التأويل في آيات الكتاب العزيز ،بل على كل من يعتقد بالدين ألا يتقي شيئا مما يدل عليه ظاهر الآيات والأحاديث التي صح سندها وينصرف عنها إلى التأويل إلا بدليل عقلي يقطع بأن الظاهر غير مراد ،والوصول إلى ذلك في مثل هذه المسألة يحتاج إلى بحث طويل وعناء شديد ،وعلم غزير في طبقات الأرض وما تحتوي عليه ،وذلك يتوقف على علوم شتى عقلية ونقلية ،ومن هذى برأيه بدون علم يقيني ؛فهو مجازف لا يسمع له قول ،ولا يسمح له ببث جهالاته ،والله ورسوله أعلم .ا ه بتصرف .
وخلاصة هذا: أن ظواهر القرآن والأحاديث تدل على أن الطوفان كان عاما شاملا لقوم نوح الذين لم يكن في الأرض غيرهم فيجب اعتقاده ،ولكنه لا يقتضي أن يكون عاما للأرض ؛إذ دليل على أنهم كانوا يملئون الأرض ،وكذلك وجود الأصفاد والحيوانات البحرية في قنن الجبال لا يدل على أنها من أثر ذلك الطوفان ،بل الأقرب أنه كان من أثر تكون الجبال وغيرها من اليابسة في الماء ،فإن صعود الماء إلى الجبال أياما معدودة لا يكفي لحدوث ما ذكر فيها .
ولما كانت هذه المسألة التاريخية ليست من مقاصد الدين لم يبينها بنص قطعي ،ومن ثم نقول: إنه ظاهر النصوص ولا نتخذه عقيدة دينية قطعية ،فإن أثبت علم طبقات الأرض"الجيولوجيا "خلافه ؛فلا يضيرنا ؛لأنه ينقض نصا قطعيا عندنا . 44