{ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا ( 39 )}
المفردات:
الحكمة: هي القرآن ،أو الحكمة: معرفة الحق سبحانه ومعرفة الخير للعمل به ،فالتوحيد رأس الحكمة النظرية ،ومكارم الأخلاق هي الحكمة العملية .
المدحور: المبعد من رحمة الله .
التفسير:
39-{ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة ...} .
أي: هذا الذي أمرناك به من الأخلاق الجميلة ونهيناك عنه من الرذائل مما أوحينا إليك من فقه الدين ومعرفة أسراره ومن الحكم في تشريعه .أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن التوراة كلها في خمسة عشرة آية من بني إسرائيل ثم تلا:{لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا .وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ..} الآيات .
فهذه خمسة عشرة آية قد اشتملت على خمس وعشرين تكليفا جمعت أصول مكارم الأخلاق ،وأساس الفضائل .
{ولا تجعل مع الله إلها آخر فتَلقى في جهنم ملوما مدحورا} .
لقد بدأ هذه المجموعة من الآيات الأمر بالتوحيد{وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه} .ثم جاء الختام محذرا من الشرك ،داعيا إلى التوحيد فعقيدة التوحيد هي الأساس في امتثال الأوامر والنواهي وهي رأس الحكمة وهي مبدأ الأمر ومنتهاه .
ملوما تلوم نفسك أي: واقعا في الليل مدحورا مبعدا مطرودا من رحمة الله .
ملاحظة:
بدأ هذه المجموعة من الآيات ( 22-39 ) بقوله تعالى:
{لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا .( 22 ) ،وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا ( 23 )} .
فذكرت عاقبة الشرك في الدنيا وهي أن يقعد المشرك مذموما مخذولا أي: واقعا في الذم والخذلان والهزيمة .
ثم ذكرت خاتمة الآيات عاقبة المشرك في الآخرة وهي أن يلقى في جهنم ملوما مدحورا ( الآية: 39 ) .
أي: ملموما من جهة نفسه ،ومن جهة غيره ومبعدا من رحمة الله .وبين البداية والخاتمة ،دعوة إلى مكارم الأخلاق وتحذير من الكبائر والرذائل ،والخطاب هنا إما موجه إلى الإنسان عامة ،أو إلى الرسول خاصة والمراد أمته والكلام من باب قولهم: ( إياك أعني واسمعي يا جارة ) .
هدانا الله إلى حكمة القرآن ووفقنا إلى الهدى ومكارم الأخلاق وأمدنا بالنصر والتوفيق إنه نعم المولى ونعم النصير .
أخلاق القرآن
إن هذه المبادئ والوصايا التي ذكرت في سورة الإسراء في أسلوب حكيم أخّاذ تعتبر دستورا أخلاقيا للجماعة الإسلامية بل هي شعار إنساني للإنسانية الفاضلة .
وقد كان التمسك بهذه الأخلاق سببا في تماسك الأمة الإسلامية وترابطها وعاملا من عوامل رقيها وانتصارها ،وأحرى بالمسلمين اليوم أن يتمسكوا بهدى القرآن وأخلاق القرآن ؛ليعود إليهم مجدهم وعزهم بعد أن تعود إليهم أخلاقهم وشيمهم .
سئلت عائشة رضي الله عنها عن أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: كان خلقه القرآن .
وإن عناية القرآن بالتربية والفضيلة فاقت كل عناية ،وكان القرآن مأدبة الله أقبل عليها المسلمون فنفذوا أوامر القرآن ،وأحلوا حلاله ،وحرموا حرامه ،وعملوا بأوامره ،واجتنبوا نواهيه ؛فصاروا قرآنا متحركا ،وجاء في وصفهم على لسان مارية القبطية التي كتبت للمقوقس تقول له:
( إن هؤلاء المسلمين هم العقل الجديد ،وهم النور الجديد .ونبيهم أطهر من السحابة البيضاء في اليوم الصائف .وإذا رفعوا السيف رفعوه بقانون ،وإذا وضعوا السيف وضعوه بقانون يفتحون البلاد بأخلاقهم قبل أن يفتحوها بسيوفهم .وإذا جاء وقت الصلاة ؛غسلوا أطرافهم ووقفوا في محرابهم يناجون إلها سميعا مجيبا ) .
وإن رسالات الأنبياء كلها كانت دعوات هادفة لإرساء معالم الفضيلة والدعوة إلى الأخلاق السامية والسلوك المستقيم قال صلى الله عليه وسلم: ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ){[409]} .
وبين الدين: أن أحب الرجال إلى الله هو السهل الهين الذي يألف ويؤلف وأبغض الرجل إلى الله هو الرجل الجحظري الغليظ القلب الذي لا يألف ولا يؤلف ،قال صلى الله عليه وسلم: ( إن أحبكم إلي وأقربكم مني منازل يوم القيامة ؛أحاسنكم أخلاقا ،الموطئون أكنافا الذين يألفون ويؤلفون ،وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني منازل يوم القيامة: الثرثارون المتشدقون المتفيهقون قلنا: يا رسول الله ،هؤلاء الثرثارون المتشدقون ،فمن هم المتفيهقون ؟قال: ( المتكبرون ){[410]} .
إن أخلاق الإسلام هي أخلاق الفطرة السليمة والنفس المستقيمة ؛رغبة في الخير ؛ومعونة للمحتاج ،ورحمة بالضعيف ،وعمل إنساني من أجل الجماعة ،وكف الضر والإيذاء عن الناس .
وقد جاء في الحديث:
( المسلم من سلم الناس من لسانه ويده ،والمهاجر من هجر السوء واجتنبه ) .
وقال رجل: يا رسول الله ،قل لي في الإسلام قولا وأقلل فيه لعلي أعيه ؛فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( قل آمنت بالله ثم استقم ) .
وفي هذا المعنى يقول القرآن الكريم:
{إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون .نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون .نزلا من غفور رحيم} .( فصلت: 32 ،30 ) .
ولما أتى النبي صلى الله عليه وسلم بسبايا طيء ،وقفت من بينهم ( سفانة ) بنت حاتم الطائي ،وقالت يا محمد ،إن رأيت أن تخلي عني ،ولا تشمت بي أحياء العرب ،فعلت ؛فإن أبي كان سيد قومه ؛يفك العاني ،ويقتل الجاني ،ويحفظ الجار ،ويحمي الذمار ،ويفرج عن المكروب ،ويطعم الطعام ،ويفشي السلام ،ويحمل الكل ،ويعين على نوائب الدهر ،وما أتاه أحد في حاجة فرده خائبا ،أنا بنت حاتم الطائي ؛فقال محمد عليه السلام: ( يا جارية هذه صفات المؤمنين فلو كان أبوك مسلما لترحمنا عليه ،خلوا عنه ؛فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق !) ثم قال: ( ارحموا عزيز قوم ذل ،وغنيا افتقر ،وعالما ضاع بين جهال ) وأكرم قومها من أجلها ؛تحية لها ،فأطلقهم من أسارهم فاستأذنته في الدعاء له فأذن لها ،فقالت:
( أصاب الله ببرك مواقعه ،ولا جعل لك إلى لئيم حاجة ،ولا سلب نعمة عن كريم قوم إلا وجعلك سببا في ردها عليه ) .
وذهبت سفانة إلى أخيها عدي بن حاتم فقال له: يا أخي ،ائت هذا الرجل قبل أن تعلقك حبائله ( تأتيه مقيدا ) فإني رأيت هديا ورأيا ،سيغلب أهل الغلبة ،ورأيت خصالا أعجبتني: رأيته يحب الفقير ،ويفك الأسير ،ويرحم الصغير ،ويعرف قدر الكبير ،وما رأيت أجود ولا أكرم منه ،إنه لنبي فللسابق إليه فضله .
فأصغى عدي إلى رأي أخته ،وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلما ومعه أخته مسلمة أيضا .
إن قوة الإسلام الذاتية هي التي جمعت المسلمين ووحدت كلمتهم ودفعتهم ينشرون دين الله في المشارق والمغارب ،وصدق الله العظيم:{إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا} .( الإسراء: 9 ) .