التفسير:
6- وإذا البحار سجّرت .
سجر التنور: أوقده نارا .
وقد ورد في مسند الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن تحت البحر نارا ،وتحت النار ماء ) .
فإذا اختل نظام الكون وتقطعت أوصاله ،وسيّرت الجبال ،حدثت الزلازل التي تجعل النيران تغلب على البحار .
وقد قال القرآن الكريم في موضع آخر:وإذا البحار فجّرت .( الانفطار: 3 ) .
قال صاحب الظلال:
فتفجير عناصر المياه ،وانفصال الهيدروجين عن الأكسجين فيها ،أو تفجير ذراتها على نحو ما يقع في تفجير الذرة ،وهو أشدّ هولا ،أو على أيّ نحو آخر ،وحين يقع هذا فإن نيرانا هائلة لا يتصوّر مداها تنطلق من البحار ،فإن تفجير قدر محدود من الذرّات في القنبلة الذريّة أو الهيدروجينية ،يحدث هذا الهول الذي عرفته الدنيا ،فإذا تفجّرت ذرّات البحار على هذا النحو أو نحو آخر ،فإن الإدراك البشريّ يعجز عن تصوّر هذا الهول ،وتصوّر جهنم الهائلة التي تنطلق من هذه البحار الواسعة . ii .
ومن المفسرين من ذهب إلى أن تسجير البحار ،هو أن تقطّع الزلازل والبراكين ما بينها من حواجز ،حتى تصبح بحرا واحدا يختلط فيه الماء العذب بالماء الملح ،ورجح الشيخ محمد عبده هذا الرأسiii ،كما رجحه الأستاذ عبد الكريم الخطيب في التفسير القرآني للقرآن ،ولم يقبل الرأي الأول ،وهو تحوّل الماء إلى نار .
أما الأستاذ الدكتور زغلول النجارiv فقد رجّح أن تسجير الحار هو تحوّلها إلى نار بسبب انفصال الأكسجين عن الهيدروجين .
واعتبر ذلك من إعجاز القرآن الكريم ،حيث أشار إلى معان علمية أكّدها العلم بعد زمن طويل من نزول القرآن الكريم ،وقد نزلت على نبيّ أمّي ،لا علم له بذلك إلا عن طريق الوحي .
وقد أيّد العلم وجود طبقات من النار تحت البحار ،ويؤيد ذلك ما نراه في الزلازل والبراكين التي تقذف بالحمم والنيران الملتهبة ،والصخور المذابة التي تتحول إلى صهارة سائلة من أثر البراكين .
قال الشيخ محمد عبده:
وقد يكون تسجير البحار إضرامها نارا ،فإن ما في باطن الأرض من النار يظهر إذ ذاك بتشققها وتمزّق طبقاتها العليا ،أما الماء فيذهب عند ذلك بخارا ،ولا يبقى في البحار إلا النار ،أما كون باطن الأرض يحتوي على نار فقد ورد به بعض الأخبار ،حيث ورد أن البحر غطاء جهنم ،وإن لم يعرف في صحيحها ،ولكن البحث العلمي أثبت ذلك . v .
وفي ختام هذه الآية أذكّر القارئ بأن التفسير العلمي للقرآن الكريم له ثلاثة اتجاهات:
1- الاتجاه الأول: رفض التفسير العلمي للقرآن جملة وتفصيلا ،ومن روّاد هذا الاتجاه الإمام الشاطبي في كتابه ( الموافقات ) ،الذي ذهب إلى أن القرآن الكريم ينبغي أن يفهم كما فهمه العربي أول مرة ،ورفض الإمام الشاطبي التأويل للقرآن ،وحذا حذوه جانب من العلماء .
2- الاتجاه الثاني: يرى أن القرآن الكريم كتاب علم ،وقد اشتمل على ألوان من الإعجاز ،منها: الإعجاز الغيبي ،والإعجاز العلمي ،والإعجاز اللفظي ،والإعجاز البياني ،وفي العصور القديمة ساد التحدّي بالإعجاز اللفظي والأسلوبي والبلاغي ،أما في العصور اللاحقة فقد ساد التحدي بالإعجاز العلمي ،ومن أساطين المفسرين في ذلك الإمام فخر الدين الرازي في التفسير الكبير ،والشيخ طنطاوي جوهري في العصر الحديث .
3- الاتجاه الثالث: وهو اتجاه وسط بين الاتجاهين ،يرى أن القرآن الكريم كتاب هداية بالدرجة الأولى ،وأن الله أنزل القرآن هدى ونورا ليتدبر الناس آياته ،ويتفهّموا معانيه ،ويعلموا بأوامره ،ويتجنبوا نواهيه ،والأساس عندهم أن ينكب الناس على فهم روح القرآن ومقاصده ،وأهدافه العليا ،وآفاقه السامقة كما هو ،وإذا حدث أن تأكد لدينا دليل علمي فلا بأس من ذكره بجوار تفسير القرآن ،للاستئناس به وبيان صدق القرآن الكريم الذي تأكد بالعلم ،وتأيد بالدليل والبرهان ،ومن أئمة الاتجاه الثالث الإمام الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الجامع الأزهر الأسبق ،فهو يقول:
لا ينبغي أن نجرّ الآية إلى العلم عند تفسيرها ،ولا أن نجر العلم إلى الآية ،ولكن إن كانت هناك حقيقة علمية مقررة فلا بأس من ذكرها عند تفسير الآية .
وهذا الاتجاه اتجاه وسط ،ينصب ويتجه إلى القرآن بالدرجة الأولى ،ويستشهد من حقائق العلم بنصيب ما ،بحيث لا يهيأ للمشاهد أن القرآن الكريم كتاب طبيعة أو كيمياء أو جغرافيا أو طبوغرافيا أو فلك أو طبقات الأرض ،أو غير ذلك من العلوم المدنية أو العسكرية أو غيرها .
فنحن أمام كتاب معجز بذاته ،وهدايته وصدقه ،وأخباره وأسلوبه ،وفصاحته وبلاغته ،ومع ذلك فإن العلوم والفنون لم تصطدم بأب حقيقة علمية قررها القرآن ،بل إن العلم ينزع إلى تأكيد صدقه .
كما قال سبحانه: سنريهم آيتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد .( فصلت: 53 ) .
والخلاصة: القرآن غالب غير مغلوب ،فاطمئنوا على حفظه وإعجازه ،وسيروا في بيان إعجازه العلمي على مهل وهدوء ويسر ،وركّزوا على بيان هدايته حين أنزل ،وحين بعث أمة كانت خير أمة أخرجت للناس ،ولا مانع من بيان الإعجاز العلمي بالقدر المناسب الميسّر ،والله ولي التوفيق .