النفس الإنسانية:
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ( 189 ) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ( 190 ) أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ ( 191 ) وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ ( 192 ) وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ ( 193 ) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( 194 )
بين الله تعالى أن الفطرة الإنسانية تتجه إلى الإيمان بالله تعالى ، وأنها شهادة النفس الإنسانية ، وأنها العهد الذي أخذه الله تعالى على الناس وهم في ظهور آبائهم ، وقد بين كيف انحرفت ، وتوالت هذه الانحرافات ، وصارت الخلائف تتجه إليها في ذرياتهم ، وكأنها حيلة وليست كذلك . يقول الله تعالى:{ هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها} ، أي أن الناس جميعا يرجعون إلى نفس واحدة في جنس واحد ؛ ولذلك كانوا متجانسين ملتقين في طبيعة واحدة مهما تختلف أجناسهم أو تتباين شعوبهم وقبائلهم ، فهم من جنس واحد ، أو نقول النفس الواحدة هي نفس آدم وجعل الله تعالى زوجها من جنسها أو منها{ ليسكن إليها} ، ليأنس روح كل منهما بصاحبه والمؤدى في التخريجين واحد ، وهو التجانس التام بين النفسين ، النفس التي انبعث منها زوجها والزوج المنبعث . وقوله تعالى:{ ليسكن إليها} توضح التجانس ، سواء أذكر ابتداء ، أم كان ذكر بانتهاء القول ، أي سواء أفسرنا النفس بالوحدة الجنسية ، أم فسرنا النفس بآدم وحواء .
وقوله تعالى:{ ليسكن إليها} أي ليستأنس ويطمئن ، ويمتزج روحهما ، كقوله تعالى:{ ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة . . . . . . . . . . ( 21 )} ( الروم ) .
ويلاحظ هنا من الناحية البيانية – سبحانه وتعالى – ذكر النفس في السياق بالسياق مرة بأنها مؤنثة الضمير عليها مؤنثة فقال:{ خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها} فلما بين الله – سبحانه وتعالى – ثمرة ذلك التجانس ، وهو التلاقح بين الذكر والأنثى ليبقى الوجود ، وليكون ذلك التجانس منتجا أقصى غايته ، قال:{ فلما تغشاها حملت حملا خفيفا} بين حينئذ الذكر والأنثى ، وأن الذي تغشى عند اللقاء المنتج بينهما هو الذكر ، وان التي تغشى هي الأنثى ، وبذلك تكون الثمرة الإنسانية هي نتيجة ما بينهما ؛ ولذا عاد الضمير مذكرا ، فتغشى معناها:كان بينهما ما أوجبته الفطرة .
ولقد ذكر – سبحانه وتعالى – مراتب الشعور بالحمل الذي يكون نتيجة لذلك التغشي فذكر مراتب ثلاثة:
المرتبة الأولى – مرتبة الحمل في أوله ، وهي مرتبة تردد وتعرف ، فقال تعالى:{ فلما تغشاها حملت حملا خفيفا} ، أي سهلا محتملا ، ولم يمنعها من عمل ، وكان من صفات هذه المرحلة أنها لم تعقها عن عمل ، ولم تمنعها من أداء واجباتها المنزلية ؛ ولذا قال تعالى:{ فمرت به} ، أي كانت تنتقل به ، ف ( الباء ) بمعنى ( مع ) ، أي أنها كانت مع هذا الحمل الخفيف تروح وتغدو وتتقلب في أمور بيتها وفي شئونها .
المرتبة الثانية – هي أن يثقل حملها ، وتشغل به ، ولا تفكر هي وزوجها إلا فيه ، وفي هذه الحال يشركها زوجها في شعورها ، ورجائها ويضرع هو وهي إلى الله تعالى أن يجعله ذرية صالحة ؛ ولذا قال تعالى في هذه المرحلة:{ فلما أثقلت} أي صارت تحمل حملا ثقيلا ، ونسب الإثقال إليها دون الجنين ، مع أنه هو الذي أثقل ؛ للإشارة إلى أن الأنس بالجنين ، والفرحة به والرغبة في استقباله تنسيها ثقله ، فليس ثقيلا على نفسها ، وإن أثقل جسمها .
وفي هذه المرحلة كما أشرنا يشترك الزوج والزوجة في شعور واحد وهو الدعاء له بالسلامة . وهنا لا يذكر إلا هو ؛ ولذا قال تعالى:{ فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين} يشتركان في الدعاء ؛ لأنه يلتقي شعورهما ، شعور الأبوة ، وشعور الأمومة ، ولا تفكير إلا في سلامته من الآفات ، ومعنى صالحا ، أي أن يولد قويا مستقيما في تكوينه سويا في خلقه ، ليس به آفة من آفات الخلق والتكوين . يدعون ربهما مقسمين بالله:لئن آتيتنا مولودا قويا سويا لنكونن من الشاكرين . والشكر هو شكر النعمة بالقيام بحقها ، وعدم الكفر بها .
والمرتبة الثالثة – أن يفصل عنها ، ويلقي عنها ثقلها ، ويكون حق الوفاء بعدهما قد جاء ميقاته ، ويلاحظ أنهما عندما ضرعا إلى الله تعالى ؛ عبر عن ذلك ب{ ربهما} – لأنه الخالق المربي المدبر ، وهو الذي يلجأ إليه سبحانه .
ولكن هل وفيا بحق العهد واليمين: