/م189
قال تعالى:
{ هو الذي خلقكم من نفس واحدة} أي خلقكم من جنس واحد أو حقيقة واحدة صورها بشرا سويا ،{ وجعل منها زوجها ليسكن إليها} سكونا زوجيا ، أي جعل لها زوجا من جنسها فكانا زوجين ذكرا وأنثى كما قال تعالى:{ يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى} [ الحجرات:13] كما أنه خلق من كل جنس وكل نوع من الأحياء زوجين اثنين قال عز وجل:{ ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون} [ الذاريات:49] وإننا نشاهد أن كل خلية من الخلايا التي ينمي بها الجسم الحي تنطوي على نويّتين ذكر وأنثى يقترنان فيولد بينهما خلية أخرى ، وهلم جرا ، ونعلم أيضا كيف يتكون في الأرحام كل من الزوجين كما قال تعالى:{ وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى من نطفة إذا تمنى} [ النجم:45 ، 46] ولكننا لا ندري كيف ازدوجت النفس الأولى بعد وحدتها فكانت ذكرا وأنثى ، قال تعالى:{ ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم} [ الكهف:51] .
وفي التوراة التي عند أهل الكتاب أن حواء خلقت من ضلع من أضلاع آدم وقد أمرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن لا نصدق أهل الكتاب ولا نكذبهم أي فيما لا نص فيه عندنا لاحتماله ، فنحن نعمل بأمره صلى الله عليه وسلم في هذا الخبر وإن حمل عليه بعض المفسرين وغيرهم حديث ( استوصوا بالنساء فإن المرأة خلقت من ضلع وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه فإن ذهبت تقيمه كسرته ، وإن تركته لم يزل أعوج ، فاستوصوا بالنساء ){[1375]} رواه الشيخان من حديث أبي هريرة مرفوعا ، فإن المتبادر منه الذي اعتمده الشراح في تفسيره أن المراد بخلقها منه أنها ذات اعوجاج وشذوذ تخالف به الرجل كما يشير إليه ما رواه ابن حبان عن أبي هريرة ( أن المرأة خلقت من ضلع أعوج ) فهو على حد قوله تعالى:{ خلق الإنسان من عجل} [ الأنبياء:37] .
وقال الحافظ في شرحه من الفتح:قيل فيه إشارة إلى أن حواء خلقت من ضلع آدم الأيسر وقيل من ضلعه القصير .أخرجه ابن إسحاق وزاد:اليسرى من قبل أن يدخل الجنة وجعل مكانه لحم ، ومعنى خلقت أي أخرجت كما تخرج النخلة من النواة اه فتأمل لجعل الحافظ المسألة من باب الإشارة ، وحكايته لها بصيغة التضعيف ، وما ذكره من تفسيرها الغريب بتشبيه خلق الإنسان بخلق النبات ، وظاهره أنه لم يطلع على سعة حفظه على قول لمن يعتد بأقوالهم من علماء السلف ومحققي الخلف في المسألة ، وتذكر أن الله تعالى خاطب الناس في عصر التنزيل بمثل ما حكاه لهم في هذه الآية عن نشأة جنسهم في كونه تعالى خلق لهم أزواجا من أنفسهم فقال في بيان آياته من سورة الروم:{ ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودّة ورحمة} [ الروم:21] فهذا المعنى عام لا خاص بالإنسان الأول .
عبر التنزيل عن ميل الزوج الجنسي إلى زوجه هنا وفي سورة الروم بالسكون وذلك أن المرء إذا بلغ سن الحياة الزوجية يجد في نفسه اضطرابا خاصا لا يسكن إلا إذا اقترن بزوج من جنسه واتحدا ذلك الاقتران والاتحاد الذي لا تكمل حياتهما الجنسية المنتجة إلا به ، ولذلك قال بعده{ فلما تغشّاها} الخ الغشاء غطاء الشيء الذي يستره من فوقه ، والغاشية الظلة تظله من سحابة وغيرها{ والليل إذا يغشى} [ الليل:1] أي يحجب الأشياء ويسترها بظلامه ، وتغشاها أتاها كغشيها ويزيد ما تعطيه صيغة التفعل من جهد ، وهو كناية نزيهة عن أداء وظيفة الزوجية تشير إلى أن مقتضى الفطرة وأدب الشريعة فيها الستر ، ولفظ النفس مؤنث فأنث في أول الآية ، ولفظ الزوج يطلق على الذكر والأنثى ولهذا ذكّر هنا فاعل التغشي وأنث مفعوله .
أي فلما تغشى الزوج الذي هو الذكر الزوج التي هي الأنثى{ حملت حملا خفيفا} أي علقت منه وهو الحبل ، والحمل بالفتح يطلق على المصدر وعلى المحمول والمشهور أنه خاص بما كان في بطن أو على شجرة وأن ما حمل على ظهر ونحوه يسمى حملا بكسر الحاء .والحمل هاهنا يحتمل المعنيين وهو يكون في أول العهد خفيفا لا تكاد المرأة تشعر به ، وقد تستدل عليه بارتفاع حيضتها{ فمرت به} أي فمضت به إلى وقت ميلاده من غير إخداج ولا إزلاق كما قاله الزمخشري أو استمرت في أعمالها وقضاء حاجتها من غير مشقة ولا استئصال .
{ فلما أثقلت} أي حان وقت ثقل حملها وقرب وضعها{ دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين} أي توجها إلى الله تعالى ربهما يدعوانه فيما انحصر همها فيه بعد تمام الحمل على سلامة بأن يعطيهما ولدا صالحا أي سويا تام الخلق يصلح للقيام بالأعمال البشرية النافعة- ولا ينبغي أن يدعو العبد غير ربه ، فيما لا يملك هو ولا غيره من العبيد أسبابه ، دعواه مخلصين مقسمين له على ما وطنا عليه أنفسهما من الشكر له على هذه النعمة قائلين لئن أعطيتنا ولدا صالحا لنكونن من القائمين لك بحق الشكر قولا وعملا واعتقادا وإخلاصا ، كما يدل عليه الوصف المعرّف .