قوله تعالى:{وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا} .
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن المتقين إذا سئلوا عما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم قالوا: أنزل عليه خيراً ؛أي رحمة وهدى وبركة لمن اتبعه وآمن به .ويفهم من صفة أهل هذا الجواب بكونهم متقينأن غير المتقين يجيبون جواباً غير هذا .وقد صرح تعالى بهذا المفهوم في قوله عن غير المتقين وهم الكفار:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَّاذَآ أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ} [ النحل:24] كما تقدم .
قوله تعالى:{لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ في هذه الْدُّنْيَا حَسَنَةٌ} [ 30] .
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن من أحسن عمله في هذه الدار التي هي الدنيا كان له عند الله الجزاء الحسن في الآخرة .وأوضح هذا المعنى في آيات كثيرة .كقوله:{لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ} [ يونس: 26] الآية .والحسنى: الجنة .والزيادة: النظر إلى وجه الله الكريم .وقوله:{وَيِجْزِى الَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِالْحُسْنَى} [ النجم:31] ،وقوله:{هَلْ جَزَآءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ} [ الرحمن:55] .وقوله:{مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا} [ النمل:89] ،وقوله في هذه الآية{حَسَنَةٌ} أي مجازاة حسنة بالجنة ونعيمها .والآيات في مثل ذلك كثيرة .
قوله تعالى:{وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ} [ 30] .
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن دار الآخرة خير من دار الدنيا .وكرر هذا المعنى في مواضع كثيرة ،كقوله:{وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ} [ القصص: 80] الآية ،وقوله:{وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ} [ آل عمران:198] ،وقوله:{بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [ آل عمران: 16-17] ،وقوله:{وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولَى} [ الضحى:4] ،وقوله:{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَآءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذالِكَ مَتَاعُ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآب ِقُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذالِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ} [ آل عمران:14-15] الآية .وقوله{خَيْرٌ} صيغة تفضيل ،حذفت همزتها لكثرة الاستعمال تخفيفاً ؛وإليه أشار ابن مالك في الكافية بقوله:
وغالباً أغناهم خير وشر*** عن قولهم أخير منه وأشر
وإنما قيل لتلك الدار: الدار الآخرة ؛لأنها هي آخر المنازل ،فلا انتقال عنها ألبتة إلى دار أخرى .
والإنسان قبل الوصول إليها ينتقل من محل إلى محل .فأول ابتدائه من التراب ،ثم انتقل من أصل التراب إلى أصل النطفة ،ثم إلى العلقة ،ثم إلى المضغة ،ثم إلى العظام ،ثم كسا الله العظام لحماً ،وأنشأها خلقاً آخر ،وأخرجه للعالم في هذه الدار ،ثم ينتقل إلى القبر ،ثم إلى المحشر ،ثم يتفرقون{يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً} [ الزلزلة:6] فسالك ذات اليمين إلى الجنة ،وسالك ذات الشمال إلى النار{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَهُمْ في رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَآءِ الآخِرَةِ فَأُوْلَئِكَ في الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} [ الروم: 14-16] .
فإذا دخل أهل الجنة الجنة ،وأهل النار النارفعند ذلك تلقى عصا التسيار ،ويذبح الموت ،ويقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت !ويا أهل الجنة خلود فلا موت !ويبقى ذلك دائماً لا انقطاع له ولا تحول عنه إلى محل آخر .
فهذا معنى وصفها بالآخرة ؛كما أوضحه جل وعلا بقوله:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً في قَرَارٍ مَّكِين ٍثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً ءَاخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذالِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ}[ المؤمنون:12-16] .
تنبيه
أضاف جل وعلا في هذه الآية الكريمة الدار إلى الآخرة ،مع أن الدار هي الآخرة بدليل قوله:{وَلَدَارُ الآخِرَةِ} الآية ،بتعريف الدار ونعتها بالآخرة في غير هذا الموضع .وعلى مقتضى قول ابن مالك في الخلاصة:
ولا يضاف اسم لما به اتحد*** معنى وأول موهما إذا ورد
فإن لفظ «الدار » يؤول بمسمى الآخرة .وقد بينا في كتابنا ( دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ) في «سورة فاطر » في الكلام على قوله «ومكر السيئ » أن الذي يظهر لنا أن إضافة الشيء إلى نفسه بلفظين مختلفينأسلوب من أساليب اللغة العربية ؛لتنزيل التغاير في اللفظ منزلة التغاير في المعنى .وبينا كثرته في القرآن ،وفي كلام العرب .والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى:{وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} [ 30] .
مدح الله جل وعلا دار المتقين التي هي الجنة في هذه الآية الكريمة ؛لأن «نعم » فعل جامد لإنشاء المدح .وكرر الثناء عليها في آيات كثيرة .لأن فيها ما لا عين رأت ،ولا أذن سمعت ،ولا خطر على قلب بشر .كما قال تعالى:{فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِىَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [ السجدة:17] الآية ،وقال:{وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً} ،والآيات بمثل ذلك كثيرة جداً .