قوله تعالى:{قَالَ إِنَّمَا أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لأهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً 19} .
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن ذلك الروح الذي هو جبريل قال لها إنه رسول ربها ليهب لها ،أي ليعطيها غلاماً أي ولداً زكياً ،أي طاهراً من الذنوب والمعاصي ،كثير البركات .وبين في غير هذا الموضع كثيراً من صفات هذا الغلام الموهوب لها ،وهو عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ،كقوله:{إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِين َ45 وَيُكَلِّمُ النَّاسَ في الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ 46} وقوله:{وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيل 48 َوَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِي أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئ الأكْمَهَ والأبرص وَأُحْيي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ في بُيُوتِكُمْ} الآية ،إلى غير ذلك من الآيات المشتملة على صفات هذا الغلام .وقرأ هذا الحرف أبو عمرو وورش عن نافع وقالون عنه أيضاً بخلف عنه «ليهب » بالياء المفتوحة بعد اللام أي ليهب لك هو ،أي ربك غلاماً زكياً .وقرأ الباقون «لأهب » بهمزة المتكلم أي لأهب لك هو أنا أيها الرسول من ربك غلاماً زكياً .وفي معنى إسناده الهبة إلى نفسه على قراءة الجمهور خلاف معروف بين العلماء .وأظهر الأقوال في ذلك عندي: أن المراد بقول جبريل لها{قَالَ إِنَّمَا أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لأهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً 19} أي لأكون سبباً في هبة الغلام بالنفخ في الدرع الذي وصل إلى الفرج ،فصار بسببه حملها عيسى .وبين تعالى في سورة «التحريم » أن هذا النفخ في فرجها في قوله تعالى:{وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا} الآية .والضمير في قوله «فيه » راجع إلى فرجها ولا ينافي ذلك قوله تعالى في «الأنبياء »:{وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا} لأن النفخ وصل إلى الفرج فكان منه حمل عيسى ،وبهذا فسر الزمخشري في الكشاف الآية .
وقال بعض العلماء: قول جبريل{رَبِّكِ لأًهَبَ لَكِ} حكاية منه لقول الله جل وعلا .وعليه فالمعنى: إنما أنا رسول ربك ،وقد قال لي أرسلتك لأهب غلاماً .والأول أظهر .وفي الثاني بعد عن ظاهر اللفظ .وقال بعض العلماء: جعل الهبة من قبله لما كان الإعلام بها من قبله .وبهذا صدر القرطبي في تفسيره .وأظهرها الأول: والعلم عند الله تعالى .