قوله تعالى:{وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِيْن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ 34} .
قال بعض أهل العلم: كان المشركون ينكرون نبوته صلى الله عليه وسلم ويقولون: هو شاعر يتربَّص به ريب المنون ،ولعله يموت كما مات شاعر بني فلان .فقال الله تعالى: قد مات الأنبياء من قبلك ،وتولى دينه بالنصر والحياطة ،فهكذا نحفظ دينك وشرعك .
وقال بعض أهل العلم: لما نعى جبريل إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم نفسه قال: «فَمَنْ لأُمتي » ؟فنزلت{وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ} والأول أظهر .لأن السورة مكية: ومعنى الآية: أن الله لم يجعل لبشر قبل نبيه الخلد .أي دوام البقاء في الدنيا ،بل كلهم يموت .
وقوله:{أفإن مت فهم الخالدون} استفهام ،إنكاري معناه النفي .والمعنى: أنك إن مت فهم لن يخلدوا بعدك ،بل سيموتون .ولذلك أتبعه بقوله:{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} .وما أشار إليه جل وعلا في هذه الآية من أنه صلى الله عليه وسلم سيموت ،وأنهم سيموتون ،وأن الموت ستذوقه كل نفسأوضحه في غير هذا الموضع .كقوله تعالى:{إنك ميت وإنهم ميتون 30} ،وكقوله:{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ 26 وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلْالِ وَالإِكْرَامِ 27} ،وقوله في سورة «آل عمران »:{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} ،وقوله في سورة «العنكبوت »:{يا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ 56 كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ 57} ،وقوله تعالى في سورة «النساء »:{أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ في بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} إلى غير ذلك من الآيات .وقد قدمنا في سورة «الكهف » استدلال بعض أهل العلم بهذه الآية الكريمة على موت الخضر عليه السلام .وقال بعض أهل العلم في قوله:{فَهُمُ الْخَالِدُونَ 34}: هو استفهام حذفت أداته .أي أفهم الخالدون .وقد تقرر في علم النحو أن حذف همزة الاستفهام إذا دل المقام عليها جائز ،وهو قياسي عند الأخفش مع «أم » ودونها ذكر الجواب أم لا: فمن أمثلته دون «أم » ودون ذكر الجواب قول الكميت:
طربت وما شوقاً إلى البيض أطرب *** ولا لعباً مني وذو الشيب يلعب
يعني: أو ذو الشيب يلعب .وقول أبي خراش الهذلي واسمه خويلد:
وَفَوني وقالوا يا خُوَيْلِدُ لم تُرَع *** فقلتُ وأنكرتُ الوجوهَ همُ همُ
يعني: أهم هم على التحقيق .ومن أمثلته دون «أم » مع ذكر الجواب قول عمر بن أبي ربيعة المخزومي:
ثم قالوا تحبها قلت بهرا *** عدد النجم والحصى والتراب
يعني: أتحبها على الصحيح .وهو مع «أم » كثير جداً ،وأنشد له سيبويه قول الأسود يعفر التميمي:
لعمرك ما أدري وإن كنت داريا *** شعيث بن سهم أم شعيث بن منقر
يعني: أشعيث بن سهم ،ومنه قول أبي ربيعة المخزومي:
بدا لي منها معصم يوم جمرت *** وكف خضيب زينت ببنان
فوالله ما أدري وإني لحاسب *** بسبعٍ رَمَيْتُ الجمرَ أم بثمان
يعني: أبسبع .وقول الأخطل:
كذبتك عينك أم رأيت بواسط *** غلس الظلام من الرباب خيالا
يعني: أكذبتك عينك .كما نص سيبوبه في كتابه على جواز ذلك في بيت الأخطل هذا ،وإن خالف في ذلك الخليل قائلاً: إن «كذبتك » صيغة خبرية ليس فيها استفهام محذوف ،وإن «أم » بمعنى بل .ففي البيت على قول الخليل نوع من أنواع البديع المعنوي يسمى «الرجوع » .وقد أوضحنا هذه المسألة وأكثرنا من شواهدها العربية في كتابنا ( دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ) في سورة «آل عمران » وذكرنا أن قوله تعالى في آية «الأنبياء » هذه{فَهُمُ الْخَالِدُونَ 34} من أمثلة ذلك .والعلم عند الله تعالى .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة:{أَفَإِيْن مِّتَّ} قرأه نافع وحفص عن عاصم وحمزة والكسائي «مِتَّ » بكسر الميم .والباقون بضم الميم .وقد أوضحنا في سورة «مريم » وجه كسر الميم .وقوله في هذه الآية الكريمة{أَفَإِيْن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ 34} يُفهم منه أنه لا ينبغي للإنسان أن يفرح بموت أحد لأجل أمر دنيوي يناله بسبب موته .لأنه هو ليس مخلداً بعده .
وروي عن الشافعي رحمه الله أنه أنشد هذين البيتين مستشهداً بهما:
تمنَّى أن رجالٌ أموتَ وإن أمُت *** فتلك سبيلٌ لست فيها بأوحد
فقل لِلذي يَبْقَى خِلاَف الذي مضى *** تهيأ لأخرى مثلها فكأن قد
ونظير هذا قول الآخر:
فقل للشامتين بنا أفيقوا *** سيلقى الشامتون كما لقينا