قوله تعالى:{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ البارئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأسْمَآءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [ 22 -23] .
جاءت في هذه الآيات الثلاث: ذكر كلمة التوحيد مرتين ،كما ذكر فيها أيضاً تسبيح الله مرتين ،وذكر معهما العديد من أسماء الله الحسنى وصفاته العليا ،فكانت بذلك مشتملة على ثلاث قضايا أهم قضايا الأديان كلها مع جميع الأمم ورسلهم ،لأن دعوة الرسل كلها في توحيد الله تعالى في ذاته وأسمائه وصفاته وتنزيهه ،والرد على مفتريات الأمم على الله تعالى .
فاليهود قالوا:{عزير ابن الله} .
والنصارى قالوا{المسيح ابن الله} .
والمشركون قالوا:{اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً} [ مريم: 88] ،{وَجَعَلُواْ الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمنِ إِنَاثاً} [ الزخرف: 19] ،وقالوا:{أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ ص: 5] .
فكلهم ادعى الشريك مع الله ،وقالوا:{ثالث ثلاثة} وغير ذلك .
وكذلك في قضية التنزيه ،فاليهود قالوا:{إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ} [ آل عمران: 18] ،وقالوا:{يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} [ المائدة: 64] .
والمشركون قالوا:{وَمَا الرَّحْماَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً} [ الفرقان: 60] ،ونسبوا الله ما لا يرضاه أحدهم لنفسه ،وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمان إناثاً ،في الوقت الذي إذا بشر أحدهم بالأُنثى ظلَّ وجهُه مسودّاً وهو كظيم .
وهذا كما تراه أعظم افتراء على الله تعالى ،وقد سجله عليهم القرآن في قوله تعالى{وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لآبَآئِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا} [ الكهف: 4 -5] وكما قال تعالى:{أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [ الصافات: 151-152] ،وقال مبيناً جرم مقالتهم ،{وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمانُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَانِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً} [ مريم: 88-92] .
فكانت تلك الآيات الثلاث علاجاً في الجملة لتلك القضايا الثلاث ،توحيد الألوهية ،وتوحيد الأسماء والصفات ،وتنزيه الله سبحانه وتعالى مع إقامة الأدلة عليها .
وقد اجتمعت معاً لأنه لا يتم أحدها إلا بالآخرين ،ليتم الكمال لله تعالى .
قال أبو السعود: إن الكمالات كلها مع كثرتها وتشعبها راجعة إلى الكمال في القدرة والعلم اه .
وهذا كله متوفر في هذا السياق ،وقد بدأ بكلمة التوحيد ،لأنها الأصل ،لأن من آمن بالله وحده آمن بكل ما جاء عن الله ،وآمن بالله على ما هو له أهل ،ونزهه عما ليس له بأهل قال تعالى:{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} ثم أعقبه بالدليل على إفراده تعالى بالألوهية بما لا يشاركه غيره فيه بقوله تعالى:{عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} .
وهذا الدليل نص عليه على أنه دليل لوحدانية الله تعالى في مواضع أخرى منها قوله تعالى{إِنَّمَآ إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شيء عِلْماً} [ طه: 98] ووسع كل شيء هنا تساوى عالم الغيب والشهادة ،ومنها قوله تعالى{أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [ النمل: 25 -26] .وقوله تعالى} اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَي الْقَيُّومُ} إلى قوله{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ} [ البقرة: 255] .
وهذا قطعاً لا يشاركه فيه غيره ،كما قال تعالى:{وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ} [ الأنعام: 59] فكان من حقه على خلقه أن يعبدوه وحده لا إله إلا هو ،وجاء بدليل ثان ،وهو قوله تعالى{هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} وقد نص عليه صراحة أيضاً كدليل على الوحدانية في قوله تعالى{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [ البقرة: 163] فهو رحمن الدنيا ورحيم الآخرة .
ومن رحمته التي اختص بها في الدنيا قوله:{وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ} [ الشورى: 28] وقوله:{فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْييِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ} [ الروم: 50] أي: بإنزاله الغيث وإنبات النبات مما لا يقدر عليه إلا هو فكان حقه على خلقه أن يعبدوه وحده لا إله إلا هو .
وقد جمع الدليلين العلم والرحمة معاً في قوله تعالى{رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شيء رَّحْمَةً وَعِلْماً} [ غافر: 7] .
/خ24