انتقال من ذكر كفرهم في أفعالهم إلى ذكر كفرهم بأقوالهم الباطلة .
والإظهار هنا لإفادة أن مضمون الصلة هو علة قولهم هذا ،أي ما جرأهم على هذا البهتان إلا إشراكهم وتصلبهم فيه ،وليس ذلك لشبهة تبعثهم على هذه المقالة لانتفاء شبهة ذلك ،بخلاف ما حكي آنفاً من كفرهم بالله فإنهم تلقوه من آبائهم ،فالوصف الذي أجري عليهم هنا مناسب لمقالتهم لأنها أصل كفرهم .
وهذه الجملة مقابلة جملة:{ تبارك الذي نزل الفرقان على عبده}[ الفرقان: 1] فهي المقصود من افتتاح الكلام كما آذنت بذلك فاتحة السورة .وإنما أخرت هذه الجملة التي تقابل الجملة الأولى مع أن مقتضى ظاهر المقابلة أن تذكر هذه الجملة قبل جملة:{ واتخذوا من دونه آلهة}[ الفرقان: 3] اهتماماً بإبطال الكفر المتعلق بصفات الله كما تقدم آنفاً .
والقصر المشتمل عليه كلامهم المستفاد من ( إنْ ) النافية و ( إلاّ ) قصر قلب ؛زعموا به رد دعوى أن القرآن منزل من عند الله .
وممن قال هذه المقابلة النضر بن الحارث ،وعبد الله بن أمية ،ونوفل بن خويلد .فإسناد هذا القول إلى جميع الكفار لأنه واقع بين ظهرانيهم وكلهم يتناقلونه .وهذه طريقة مألوفة في نسبة أمر إلى القبيلة كما يقال: بنو أسد قتلوا حجراً .
واسم الإشارة إلى القرآن حكاية لقولهم حين يسمعون آيات القرآن .
والضمير المرفوع في{ افتراه} عائد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم المعلوم من قوله:{ على عبده}[ الفرقان: 1] .
والإفك: الكذب .وتقدم عند قوله تعالى:{ إن الذين جاءو بالإفك} في سورة النور ( 11 ) .والإفتراء: اختلاق الأخبار ،أي ابتكارها وهو الكذب عن عمد ،وتقدم في قوله:{ ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب} في سورة العقود ( 103 ) .
{ وأعانه عليه} أي على ما يقوله من القرآن قوم آخرون لقنوه بعض ما يقوله ،وأرادوا بالقوم الآخرين اليهود .روي هذا التفسير عن مجاهد وعن ابن عباس: أشاروا إلى عبيد أربعة كانوا للعرب من الفرس وهم: عدّاس مولى حويطب بن عبد العزى ،ويسار أبو فكيهة الرومي مولى العلاء بن الحضرمي ،وفي « سيرة ابن هشام » أنه مولى صفوان بن أمية بن محرِّث ،وجبر مولى عامر .وكان هؤلاء من موالي قريش بمكة ممن دانوا بالنصرانية وكانوا يعرفون شيئاً من التوراة والإنجيل ثم أسلموا ،وقد مر ذلك في سورة النحل ،فزعم المشركون أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتردد إلى هؤلاء سراً ويستمد منهم أخبار ما في التوراة والإنجيل .
والقصر المستفاد من قوله:{ إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون} متسلط على كلتا الجملتين ،أي لا يخلو هذا القرآن من مجموع الأمرين ،هما: أن يكون افترى بعضه من نفسه ،وأعانه قوم على بعضه .
وفرع على حكاية قولهم هذا ظهور أنهم ارتكبوا بقولهم ظلماً وزوراً لأنهم حين قالوا ذلك ظهر أن قولهم زور وظلم لأنه اختلاق واعتداء .
و{ جاءوا} مستعمل في معنى ( عملوا ) وهو مجاز في العناية بالعمل والقصد إليه لأن من اهتم بتحصيل شيء مشى إليه ،وبهذا الاستعمال صح تعديته إلى مفعول كما في هذه الآية .
والظلم: الاعتداء بغير حق بقول أو فعل قال تعالى:{ قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه}[ ص: 24] وتقدم في قوله:{ ومن أظلم ممن منع مساجد الله} في سورة البقرة ( 114 ) .والظلم الذي أتوه هو نسبتهم الرسول إلى الاختلاق فإنه اعتداء على حقه الذي هو الصدق .
والزور: الكذب ،وأحسن ما قيل في الزور: إنه الكذب المحسَّن المموَّه بحيث يشتبه بالصدق .
وكون قولهم ذلك كذباً ظاهر لمخالفته الواقع فالقرآن ليس فيه شيء من الإفك ،والذين زعموهم معينين عليه لا يستطيع واحد منهم أن يأتي بكلام عربي بالغ غاية البلاغة ومرتق إلى حد الإعجاز ،وإذا كان لبعضهم معرفة ببعض أخبار الرسل فما هي إلا معرفة ضئيلة غير محققة كشأن معرفة العامة والدهماء .