{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءوا ظُلْماً وَزُوراً} .
ذكر جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة أن الذين كفروا وكذّبوا النبيّ صلى الله عليه وسلم ،فقالوا في هذا القرآن العظيم ،الذي أوحاه اللَّه إليه:{إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ} ،أي: ما هذا القرآن إلا كذب اختلقه محمّد صلى الله عليه وسلم ،وأعانه عليه على الإفك الذي افتراه قوم آخرون ،قيل: اليهود ،وقيل: عداس مولى حويطب بن عبد العزّى ،ويسار مولى العلاء بن الحضرمي ،وأبو فكيهة الرومي ،قال ذلك النضر بن الحر العبدري .
وما ذكره جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة من أن الكفّار كذّبوه وادّعوا عليه أن القرآن كذب اختلقه ،وأنه أعانه على ذلك قوم آخرون جاء مبيّنًا في آيات أُخر ؛كقوله تعالى:{وَعَجِبُواْ أَن جَاءهُم مٌّنذِرٌ مّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} [ ص: 4] ،وقوله تعالى:{وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [ النحل: 101] ،وقوله تعالى:{بَلْ كَذَّبُواْ بِالْحَقّ لَمَّا جَاءهُمْ فَهُمْ في أَمْرٍ مَّرِيجٍ} [ ق: 5] ،وقوله تعالى:{وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ} [ الأنعام: 66] الآية ،والآيات في ذلك كثيرة معلومة .
وما ذكره جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة من أنهم افتروا على النبيّ صلى الله عليه وسلم ،أنه أعانه على افتراء القرآن قوم آخرون جاء أيضًا موضحًا في آيات أُخر ؛كقوله تعالى:{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلّمُهُ بَشَرٌ} [ النحل: 103] ،وقوله تعالى:{فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ} [ المدثر: 24] ،أي: يرويه محمّد صلى الله عليه وسلم عن غيره{إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ} ،وقوله تعالى:{وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ} [ الأنعام: 105] ،كما تقدّم إيضاحه في «الأنعام » ،وقد كذّبهم اللَّه جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة فيما افتروا عليه من البهتان بقوله:{فَقَدْ جَاءوا ظُلْماً وَزُوراً} ،قال الزمخشري: ظلمهم أن جعلوا العربي يتلقن من الأعجمي الرومي كلامًا عربيًّا أعجز بفصاحته جميع فصحاء العرب ،والزور هو أن بهتوه بنسبة ما هو بريء منه إليه ،انتهى .وتكذيبه جلَّ وعلا لهم في هذه الآية الكريمة ،جاء موضحًا في مواضع أُخر من كتاب اللَّه ؛كقوله تعالى:{لّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِىٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِىٌّ مُّبِينٌ} [ النحل: 103] ،كما تقدّم إيضاحه في سورة «النحل » ،وقوله:{وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ} [ الأنعام: 66] ،وقوله تعالى:{فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ} [ المدثر: 24-27] الآية ،لأن قوله:{سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} بعد ذكر افترائه على القرآن العظيم يدلّ على عظم افترائه وأنه سيصلى بسببه عذاب سقر ،أعاذنا اللَّه وإخواننا المسلمين منها ،ومن كل ما قرب إليها من قول وعمل .
واعلم: أن العرب تستعمل جاء وأتى بمعنى: فعل ،فقوله:{فَقَدْ جَاءوا ظُلْماً} ،أي: فعلوه ،وقيل: بتقدير الباء ،أي: جاءوا بظلم ،ومن إتيان أتى بمعنى فعل قوله تعالى:{لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْاْ} [ آل عمران: 188] الآية ،أي: بما فعلوه .وقول زهير بن أبي سلمى:
فما يك من خير أتوه فإنما ***توارثه آباء آبائهم قبل
واعلم بأن الإفك هو أسوأ الكذب ،لأنه قلب للكلام عن الحقّ إلى الباطل ،والعرب تقول: أفكه بمعنى قلبه ،ومنه قوله تعالى في قوم لوط:{وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيّنَاتِ} [ التوبة: 70] ،وقوله:{وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى} [ النجم: 53] ،وإنما قيل لها مؤتفكات ؛لأن الملك أفكها ،أي: قلبها ؛كما أوضحه تعالى بقوله:{جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} [ الحجر: 74] .