/م46
وههنا لقن الله رسوله صلى الله عليه وسلم الجواب بقوله:{ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً ولاَ نَفْعاً} أي إني بشر رسول لا أملك لنفسي فضلا عن غيرها شيئا من التصرف في الضر فأدفعه عنها ، ولا النفع فأجلبه لها ، من غير طريق الأسباب التي يقدر غيري عليها ، وليس منها إنزال العذاب بالكفار المعاندين ، ولا هبة النصر للمؤمنين .
{ إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ} أي لكن ما شاء الله من ذلك كان متى شاء ، لا شأن لي فيه ؛ لأنه خاص بالربوبية دون الرسالة التي وظيفتها التبليغ لا التكوين .هكذا قال جمهور المفسرين:إن الاستثناء هنا منقطع ، وله أمثال تقدم بعضها ، كقوله تعالى -وهو من أظهرها الصريح في هذا المقام-{ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا ولاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ ولَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ ومَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [ الأعراف:188] .
والاختلاف بين الآيتين في تقديم ذكر الضر على النفع وتأخيره لاختلاف المقام ، فقد قدم الضر في آية يونس لأنها جواب للمشركين عن ميعاد العذاب الذي أنذروا به ، وهو من الضر ، وقدم النفع في آية الأعراف لأن المقام بيان الحقيقة في نفسها ، وهو أن الرسول لا يملك لنفسه شيئا من التصرف في الكون بغير الأسباب العامة فضلا عن ملكه لغيره ، والمناسب في هذا تقديم النفع لأنه هو المقصود بالذات من تصرف الإنسان وسعيه لنفسه .وقيل:إن الاستثناء متصل ، وحينئذ يكون المنفي المستثنى منه عالما لما يملكه الإنسان بالأسباب العادية ، فيكون المعنى إلا ما شاء الله تعالى أن أملكه بما أعطاني من الكسب الاختياري مع تيسير أسبابه لي ، وأما الآيات الخارقة للعادة فهي لله وحده ، ولا مما يملكه رسله .
وقد أجاب سبحانه عن هذا السؤال بقوله:{ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} لبقائها وهلاكها علِمه الله وقدره لها ، لا يعلمه ولا يقدر عليه غيره .
{ إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ولاَ يَسْتَقْدِمُونَ} أي فلا يملك رسولهم -من دونه تعالى- أن يقدمه ولا أن يؤخره ساعة عن الزمان المقدر له وإن قلّت ، ولا أن يطلب ذلك منه تعالى ، وهو معنى ما تدل عليه السين والتاء في الأصل ، وقد حققنا معنى هذا النص في آية سورة الأعراف بلفظه فاستغرق أربع ورقات من جزء التفسير الثامن فليراجعه من شاء ، إلا أنه قال هنالك{ فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون} [ الأعراف:34] الخ ، وقال هنا{ إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون} الخ والفرق بينهما أن ما هنا أبلغ في نفي تأخير الوعيد ؛ لأنه تفنيد لاستعجالهم به ، وذلك أنه جعل الجملة الشرطية وصفا للأجل مرتبطا به مباشرة لا يتخلف عنه ، وما هنالك إخبار بآجال الأمم مبتدأ ، وما بعده تفريع عليه ، فهو لا يدل على لزومه له بلا مهملة كالذي هنا .وقد تكرر هذا السؤال من المشركين مع جوابه في سور أخرى ، وأشبهه بما هنا سياق سورة النمل وأجيب فيها بقوله:{ قل عسى أن يكون رديف لكم بعض الذي تستعجلون} [ النمل:72] وهو من ردفه إذا لحقه وتبعه ، وعدى باللام لتأكيده أو تضمينه معنى يناسبه .
وقد بلغ من جهل الخرافيين من المسلمين بتوحيد الله أن مثل هذه النصوص من آيات التوحيد لم تصد الجاهلين به منهم عن دعوى قدرة الأنبياء والصالحين -حتى الميتين منهم- على كل شيء من التصرف في نفعهم وضرهم ، مما لم يجعله الله تعالى من الكسب المقدور لهم بمقتضى سننه في الأسباب ، بل يعتقدون أن منهم من يتصرفون في الكون كله ، كالذين يسمونهم الأقطاب الأربعة ، وأن بعض كبار علماء الأزهر في هذا العصر يكتب هذا حتى في مجلة الأزهر الرسمية ( نور الإسلام ) ، فيفتي بجواز دعاء غير الله من الموتى والاستغاثة بهم في كل ما يعجزون عنه من جلب نفع ودفع ضر ، وألف بعضهم كتابا في إثبات ذلك ، وكون الميتين من الصالحين ينفعون ويضرون بأنفسهم ، ويخرجون من قبورهم فيقضون حوائج من يدعونهم ويستغيثون بهم .قال في فتح البيان بعد نقله القول الأول في الاستثناء عن أئمة المفسرين وترجيحه ما نصه:
وفي هذا أعظم وازعوأبلغ زاجر لمن صار ديدنه وهجيراه المناداة لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو الاستغاثة به عند نزول النوازل التي لا يقدر على دفعها إلا الله سبحانه ، وكذلك من صار يطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم ما لا يقدر على تحصيله إلا الله سبحانه ، فإن هذا مقام رب العالمين ، الذي خلق الأنبياء والصالحين وجميع المخلوقين ، ورزقهم وأحياهم ويميتهم ، فكيف يطلب من نبي من الأنبياء أو ملك من الملائكة أو صالح من الصالحين ما هو عاجز عنه غير قادر عليه ؟ ويترك الطلب لرب الأرباب القادر على كل شيء الخالق الرازق المعطي المانع ؟ وحسبك بما في الآية من موعظة ، فإن هذا سيد ولد آدم ، وخاتم الرسل ، يأمره الله بأن يقول لعباده{ لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا} [ يونس:49] فكيف يملكه لغيره ؟ وكيف يملكه غيرهممن رتبته دون رتبته ومنزلته لا تبلغ إلى منزلتهلنفسه ، فضلا عن أن يملكه لغيره ؟
"فيا عجبا لقوم يعكفون على قبور الأموات الذين قد صاروا تحت أطباق الثرى ، ويطلبون منهم من الحوائج ما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل ؟ كيف لا يتيقظون لما وقعوا فيه من الشرك ، ولا ينتبهون لما حل بهم من المخالفة لمعنى لا إله إلا الله ، ومدلول{ قل هو الله أحد} .
"وأعجب من هذا اطلاع أهل العلم على ما يقع من هؤلاء ولا ينكرون عليهم ، ولا يحولون بينهم وبين الرجوع إلى الجاهلية الأولى ، بل إلى ما هو أشد منها ، فإن أولئك يعترفون بأن الله سبحانه هو الخالق الرازق ، المحيي المميت ، الضار النافع ، وإنما يجعلون أصنامهم شفعاء لهم عند الله و مقربين لهم إليه ، وهؤلاء يجعلون لهم قدرة على الضر والنفع ، وينادونهم تارة على الاستقلال ، وتارة مع ذي الجلال ، وكفاك من شر سماعه ، والله ناصر دينه ، ومطهر شريعته من أوضار الشرك وأدناس الكفر .ولقد توسل الشيطان -أخزاه الله- بهذه الذريعة إلى ما تقر به عينه وينثلج به صدره من كفر كثير من هذه الأمة المباركة{ وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا} [ الكهف:104] إنا لله وإليه راجعون "اه .