/م5
{ هُو الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء والْقَمَرَ نُوراً} الضياء اسم مصدر من أضاء يضيء وجمع ضوء ، كسياط وسوط وحياض وحوض ، وقرأ ابن كثير ( ضئاء ) على القلب ، بتقديم لام الكلمة على عينها .قال في القاموس وشرحه:( الضوء ) هو ( النور ويضم ) ، وهما مترادفان عند أئمة اللغة ، وقيل:الضوء أقوى من النور .قاله الزمخشري .ولذا شبه الله هداه بالنور دون الضوء ، وإلا لما ضل أحد .وتبعه الطيبي ، واستدل بقوله تعالى:جعل الشمس ضياء والقمر نورا ، وأنكره صاحب الفلك الدائر ، وسوى بينهما ابن السكيت ، وحقق في الكشف أن الضوء فرع النور ، وهو الشعاع المنتشر ، وجزم القاضي زكريا بترادفهما لغة بحسب الوضع ، وأن الضوء أبلغ بحسب الاستعمال ، وقيل الضوء بما في الذات كالشمس والنار ، والنور لما بالعرض والاكتساب من الغير ، هذا حاصل ما قاله شيخنا رحمه الله تعالى .وجمعه أضواء ( كالضواء والضياء بكسرهما ) ، لكن في نسخة لسان العرب ضبط الأول بالفتح والثاني بالكسر ، وفي التهذيب عن الليث:الضوء والضياء ما أضاء لك ، ونقل شيخنا عن المحكم أن الضياء يكون جمعا أيضا ، قلت هو قول الزجاج في تفسيره عند قوله تعالى{ كلما أضاء لهم مشوا فيه} [ البقرة:20] اه .
وأقول:يدل على التفرقة بين الشمس والقمر في نورهما قوله تعالى:{ وجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً} [ نوح:16} وقوله:{ وجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً و قَمَراً مُّنِيراً} [ الفرقان:61] ، والسراج ما كان نوره من ذاته .واستبعد بعض المفسرين قول الزجاج:إن الضياء في الآية جمع ضوء ؛ لأن المناسب لكون القمر نورا أن يكون الضوء مفردا مثله ، وجهل هذا المستبعد وأمثاله ما يعلمه الله تعالى من أن شعاع الشمس مركب من ألوان النور السبعة التي يراها الإنسان في قوس السحاب ، فهو سبعة أضواء لا ضوء واحد ، فهذا التعبير من مفردات القرآن الكثيرة التي كشف لنا ترقي العلوم الطبيعية الفلكية من المعنى فيها ما كان الناس أو العرب يجهلونه في عصر التنزيل ، كتعبيره عن كل نوع من النبات بأنه موزون ، وتقدم بيانه في مباحث الوحي .
{ وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ} التقدير جعل الشيء أو الأشياء على مقادير مخصوصة في الزمان أو المكان أو الذوات أو الصفات ، قال تعالى:{ والله يقدر الليل والنهار} [ المزمل:20] ، وقال في القرى التي كانت بين سبأ والشام{ وقدرنا فيها السير} [ سبأ:18] ، وقال في المقادير العامة{ وخلق كل شيء فقدره تقديرا} [ الفرقان:2] والمنازل أماكن النزول جمع منزل ، والضمير للقمر ، كما قال في سورة يس{ والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم} [ يس:39] ، أي قدر له أو قدر سيره في فلكه في منازل ، ينزل في كل ليلة في واحد منها لا يخطئه ولا يتخطاه ، وهي ثمانية وعشرون منزلا معروفة تسميها العرب بأسماء نجومها المحاذية لها وهي:الشرَطان .البُطين .الثُّريَّاء ، الدّبران .الهقعة .الهنعة .الذّراع .النثّرة .الطّرف .الجبهة .الزّبرة .الصّرفة .العوّاء .السَّماك الأعزل .الغفر .الزّباني .الإكليل .القلب .الشّولة ، النّعائم .البلدة .سعد الذّابح .سعد بلع .سعد السُّعود .سعد الأخبية .فرغ الدّلو المقدم .فرغ الدّلو المؤخر .( ويسمَّيان الفرغ الأول والفرغ الثاني ) .الرّشاء .ويراجع مسميات هذه الأسماء في معاجم اللغة وكتب الفلك من شاء .فهذه المنازل هي التي يرى فيها القمر بالأبصار ، ويبقى من الشهر ليلة- إن كان 29- وليلتان- إن كان 30 يوما- يحتجب فيهما فلا يرى .
{ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ والْحِسَابَ} أي لأجل أن تعلموا بما ذكر من صفة النيرين وتقدير المنازل حساب الأوقات من الأشهر والأيام لضبط عباداتكم ومعاملاتكم الدينية والمالية والمدنية ، فلولا هذا النظام المشاهد لتعذر على الأميين من أهل البدو والحضر العلم بذلك ، لأن حساب السنين والشهور الشمسية فن لا يعلم إلا بالدراسة ، ولذلك جعل الشرع الإسلامي العام للبدو والحضر شهر الصيام وأشهر الحج وعدة الطلاق ومدة الإيلاء وغير ذلك بالحساب القمري الذي يعرفه كل أحد بالمشاهدة ، فلا يتوقف على علم فني لا يكاد يوجد إلا في بلاد الحضارة .ولعبادتي الصيام والحج حكمة أخرى وهي دورانهما في جميع الفصول ، فيعبد المسلمون ربهم في جميع الأوقات من حارة وباردة ومعتدلة .وهذا لا يمنع أهل العلم من الانتفاع بالحساب الشمسي وله فوائد أخرى ، وقد أرشدهم إليه في سورة الرحمن{ الشمس والقمر بحسبان} [ الرحمن:5] ، وفي سورة الإسراء{ وجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ والْحِسَابَ} [ الإسراء:12] وفي هذه الآيات ترغيب في علم الهيئة والجغرافية الفلكية وقد برع فيهما أجدادنا بإرشادها .
ثم قال:{ مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ} أي ما خلق الله الشمس ذات ضياء تفيض أشعتها على كواكبها التابعة لنظامها ، فتبث الحرارة والحياة في جميع الأحياء فيهم ، وجعل لكل ضوء منها من الخواص ما ليس للآخر ، ويبصر الناس فيها جميع المبصرات فيقومون بأمور معايشهم وسائر شؤونهم ، وما خلق القمر ذا نور مستمد من الشمس تنتفع به السيارة في سراهم وغيرهم ، وقدره منازل يعرف بها جميع الناس السنين والشهور ، ما خلق ذلك إلا متلبسا ومقترنا بالحق ، الذي تقتضيه الحكمة العامة لحياة الخلق ، ونظام معايشهم ومنافعهم ، فليس فيه عبث ولا خلل ؛ بل ظهر للبشر في هذا العصر من أسرار الضوء وحكمه ما صار به علما واسعا تحار العقول في نظمه وحكمه ، من أصغر ذراته إلى أعظم مجامع نيراته ، فكيف يعقل من هذا الخالق الحكيم أن يخلق هذا الإنسان في أحسن تقويم ، ويعلمه البيان ، ويعطيه ما لم يعط غيره في عالمه ؛ من الاستعداد لإظهار ما لا يحصى من حكمه ، وخواص خلقه ، وسننه في عباده ، ويجعل مدار سعادته وشقائه على ما أعطاه من علم وإرادة ، ثم يتركه بعد ذلك سدى ، يموت ويفنى ، ثم لا يبعث ولا يعود ، ليجزى المرتقون منه في معارج الكمال من المعارف الإلهية والفضائل النفسية والأعمال الصالحة بإيمانهم وصفاتهم وأعمالهم ، وليجزى المشركون الخرافيون والظالمون المجرمون ، بكفرهم وجرائمهم ومفاسدهم ، وإننا نرى كثيرا منهم أنعم في الدنيا معيشة من الصالحين المصلحين ؟{ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [ القلم:35 ، 36]{ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أم نجعل المتقين كالفجار} [ ص:28] .
{ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} استئناف لبيان المنتفعين بهذه الحجج ، أي نبين الدلائل من حكم خلقنا ، على ما أوحيناه إلى رسولنا من أصول العقائد وأحكام الشرائع ، مفصلة منوعة من كونية وعقلية لقوم يعلمون وجوه دلالة الدلائل ، والفرق بين الحق والباطل ، باستعمال عقولهم في فهم هذه الآيات ، فيجزمون بأن من خلق هذين النيرين وما فيهما من النظام بالحق ، لا يمكن أن يكون خلقه لهذا الإنسان العجيب عبثا ، ولا أن يتركه سدى ، وفي الآية تنويه بفضل العلم وكون الإسلام دينا علميا لا تقليديا ، ولذلك قفى على هذه الآيات السماوية في الشمس والقمر بآية مذكرة بسائر الآيات السماوية والأرضية فقال:{ إِنَّ فِي اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ والنَّهَارِ ومَا خَلَقَ اللّهُ فِي السَّمَاواتِ والأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ 6}