/م41
{ وقال للذي ظن أنه ناج منهما} وهو الذي أول له رؤياه بأنه يسقي ربه خمرا ، وتأويلها يدل على نجاته دلالة ظنية لا قطعية ، فإن كانت فتواه بعده عن وحي نبوي كما رجحنا لا تتمة لتأويلها فيجوز أن يكون التعبير عن نجاته بالظن ، لأن ما علم من قضاء الملك بذلك يحتمل أن يعرض ما يحول دون تنفيذه ، وقد بينا في الكلام على رؤيا يوسف وما فهمه أبوه منها من أمر مستقبله أن علم الأنبياء ببعض الأمور المستقبلة إجمالي الخ .وقال جمهور المفسرين:إن الظن هنا بمعنى العلم ، وفي هذه الدعوى نظر .وقد بينا تحقيق الحق في الفرق بين الظن والعلم لغة واصطلاحا في موضع آخر فلا محل لإعادته هنا .
{ اذكرني عند ربك} أي عند سيدك الملك بما رأيت وسمعت وعلمت من أمري عسى أن ينصفني ممن ظلموني ويخرجني من السجن ، وهذا الذكر يشمل دعوته إياهم على التوحيد وتأويله للرؤيا وإنباءهم بكل ما يأتيهم من طعام وغيره قبل إتيانه ، وآخره فتواه الصريحة فهي جديرة بأن تذكره به كلما قدم للملك شرابه{ فأنساه الشيطان ذكر ربه} أي أنسي الساقي تذكر ربه وهو أن يذكر يوسف عنده على حد{ وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره} [ الكهف:63 [{ فلبث في السجن بضع سنين} منسيا مظلوما ، والفاء على هذا للسببية وهو المتبادر من السياق ، والجاري على نظام الأسباب ، ويؤيده قوله تعالى الآتي قريبا{ وقال الذي نجا منهما واذكر بعد أمة} [ يوسف:45] أي تذكر ، إلا أن هذا الاستعمال يحتاج إلى حذف وتقدير ، ووجهوه بأنه أضاف المصدر إليه لملابسته له ، أو أنه على تقدير ذكر إخبار ربه ، فحذف المضاف ، وهو كثير ، كما أن الإضافة لأدنى ملابسة كثير في كلامه .
وقيل:إن المعنى أن الشيطان أنسى يوسف ذكر ربه وهو الله عز وجل فعاقبه الله تعالى بإبقائه في السجن بضع سنين ، وقالوا:إن ذنبه الذي استحق عليه هذا العقاب إنه توسل إلى الملك لإخراجه ولم يتوكل على الله عز وجل ، وجاؤوا عليه بروايات لا يقبل في مثلها إلا الصحيح المرفوع أو المتواتر منه ، لأنها تتضمن الطعن في نبي مرسل ، ولكن قبلها على علاتها الجمهور كعادتهم وهو خلاف الظاهر من وجوه:
الأول:عطف الإنساء على ما قاله للساقي بالفاء يدل على وقوعه عقبه ، ومفهومه أنه كان ذاكرا لله تعالى قبله إلى أن قاله ، فلو كان قوله ذنبا عوقب عليه لوجب أن يعطف عليه بجملة حالية بأن يقال:وقد أنساه الشيطان ذكر ربه – أي في تلك الحال- فلم يذكر بقلبه ولا بلسانه ، فاستحق عقابه تعالى بإطالة مكثه على خلاف ما أراده من ملك مصر وحده .
الثاني:أن اللائق بمقامه أن لا يقول ذلك القول إلا من باب مراعاة سنة الله تعالى في الأسباب والمسببات ، كما وقع بالفعل فإنه ما خرج من السجن إلا بأمر الملك ، وما أمر الملك بإخراجه إلا بعد أن أخبره الساقي خبره ، وما آتاه ربه من العلم بتأويل الرؤى وبغير ذلك مما وصاه به يوسف ، فإذا كان قد وصاه بذلك ملاحظا أنه من سنن الله في عباده متذكرا ذلك وهو اللائق به ، فلا يعقل أن يعاقبه ربه تعالى عليه ، وعطف الإنساء بالفاء يدل على وقوعه بعد تلك الوصية فلا تكون هي ذنبا ولا مقترنة بذنب فيستحق عليها العقاب .
الثالث:إذا قيل سلمنا أنه كان ذاكرا لربه عند ما أوصى الساقي ما أوصاه به ولكنه نسيه عقب الوصية واتكل عليها وحدها [ قلنا] إن زعمتم أنه نسي ذلك في الحال واستمر ذلك النسيان مدة ذلك العقاب وهو بضع سنين أو تتمتها كنتم قد اتهمتم هذا النبي الكريم تهمة فظيعة لا تليق بأضعف المؤمنين إيمانا ، ولا يدل عليها دليل ، بل يبطلها وصف الله له بأنه من المحسنين ومن عباده المخلصين المصطفين ، وبأنه غالب على أمره ، وأنه صرف عنه السوء والفحشاء ، وكيد النساء .
وإن زعمتم أن الشيطان أنساه ذكر ربه برهة قليلة عقب تلك الوصية ثم عاد إلى ما كان عليه من مراقبته له عز وجل وذكره فهذا النسيان القليل ، لا يستحق هذا العقاب الطويل ، ولم يعصم من مثله نبي من الأنبياء كما يعلم من الوجهين الرابع والخامس .
الرابع:جاء في نصوص التنزيل في خطاب الشيطان{ إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين} [ الحجر:42] وقال تعالى:{ إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون} [ الأعراف:201] فالتذكر بعد النسيان القليل من شأن أهل التقوى .
الخامس:إن النسيان ليس ذنبا يعاقب الله تعالى عليه ، وقد قال تعالى لخاتم النبيين{ وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين} [ الأنعام:68] يعني الذين أمره بالإعراض عنهم إذا رآهم يخوضون في آيات الله .
السادس:إنهم ما قالوا هذا إلا لأنهم رووا فيها حديثا مرفوعا على قلة جرأة الرواة على الأحاديث المرفوعة المسندة في التفسير وهو ما أخرجه ابن جرير الطبري في تفسير الآية عن سفيان بن وكيع عن عمرو بن محمد عن إبراهيم بن يزيد عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعا قال:قال النبي صلى الله عليه وسلم:( لو لم يقل يوسف الكلمة التي قال ما لبث في السجن طول ما لبث حيث يبتغي الفرج من عند غير الله ) ونقول:إن هذا الحديث باطل ، قال الحافظ ابن كثير وهذا الحديث ضعيف جدا ، سفيان بن وكيع ضعيف ، وإبراهيم بن يزيد هو الجوزي أضعف منه أيضا ، وقد روي عن الحسن وقتادة مرسلا عن كل منهما .وهذه المرسلات ههنا لا تقبل لو قبل المرسل من حيث هو في غير هذا الموطن والله أعلم اه .
وأقول:أولا إن ما قاله في هذين الراويين للحديث هو أهون ما قيل فيهما ومنه أنهما كانا يكذبان ، وثانيا صح أنه يعني بقوله [ ههنا] الطعن في نبي مرسل بأنه كان يبتغي الفرج من عند غير الله وهو الجدير بأن لا تحجبه الأسباب الظاهرة عن واضعها ومسخرها وخالقها عز وجل .ويعني بقوله [ لو قبل المرسل من حيث هو] ما هو الصحيح عند علماء الأصول وهو عدم الاحتجاج بالمراسيل ، وسنتكلم على المراسيل في التفسير في الكلام الإجمالي عن روايات هذه السورة وأمثالها في الخلاصة الإجمالية لتفسيره إن شاء الله تعالى ، وما رواه الكلبي وغيره عن وهب بن منبه وكعب الأحبار من خطاب الله تعالى وخطاب جبريل ليوسف وتوبيخه على الاستشفاع بآدمي مثله .فهي من موضوعات الراوي والمروي عنهما جزاهم الله ما يستحقون ، فتبين بهذا أن التفسير المأثورة في الآية باطل رواية ودراية وعقيدة ولغة وأدبا .
وقد اختلف المفسرون في مدة لبث يوسف في السجن بناء على اختلاف في تفسير البضع واختلاف الرواة .فالتحقيق أن البضع من ثلاث إلى تسع ، وأكثرها ما يطلق على السبع ، وعليه الأكثرون في مدة سجن يوسف من أولها إلى آخرها ، وما قالوه من أن السبع كانت بعد وصيته للساقي وإنه لبث قبلها خمس سنين فلا دليل عليه .