/م121
{ وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم} قال ابن جرير:يعني تعالى ذكره وما جعل الله وعده إياكم ما وعدكم به من إمداده إياكم بالملائكة الذين ذكر عددهم إلا بشرى لكم يبشركم بها{ ولتطمئن قلوبكم به} يقول وكي تطمئن بوعده الذي وعدكم من ذلك قلوبكم فتسكن إليه ولا تجزع من كثرة عدد عدوكم وقلة عددكم{ وما النصر إلا من عند الله} يعني وما ظفركم إن ظفرتم بعدوكم إلا بعون الله لا من قبل المدد الذي يأتيكم من الملائكة ا ه .
وأقول:الظاهر أن يكون التقدير وما جعل الله ذلك القول الذي قاله لكم الرسول وهو:{ ألن يكفيكم} الخ إلا بشرى يفرح بها روعكم وتنبسط به أسارير وجوهكم وطمأنينة لقلوبكم التي طرقها الخوف من كثرة عدوكم واستعدادهم .أي إن قول الرسول له هذا التأثير في تقوية القلوب وتثبيت النفوس .وإنما أرجعنا ضمير"جعله "إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم لا إلى وعد الله عز وجل لأن الآيتين السابقتين ليستا وعدا من الله بالإمداد بالملائكة وإنما هما إخبار عما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم .فقد أخبر تعالى في تينك الآيتين أن رسوله قال لأصحابه ذلك القول وبيّن في هذه الآية فائدة ذلك القول ومنفعته مع بيان الحقيقة ، وهي أن النصر بيد الله العزيز أي القوى الذي لا يمتنع عليه شيء ، الحكيم الذي يدبر الأمر على خير سنن ، ويقيمه بأحسن سنن ؛ فيهدي لأسباب النصر الظاهرة والباطنة من يشاء ؛ ويصرف عنهما من يشاء ، فإن حصل الإمداد بالملائكة فعلا فما يكون إلا جزءا من أجزاء سبب النصر أو فردا من أفراده ، ومنه إلقاء الرعب والخوف في قلوب الأعداء ، ومنه سائر الأسباب المعروفة من الصبر والثبات وحسن التدبير ومعرفة المواقع وغير ذلك ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم سلك إلى أحد أقرب الطرق وأخفاها عن العدو وعسكر في أحسن موضع وهو الشعب ( الوادي ) وجعل ظهر عسكره إلى الجبل وجعل الرماة من ورائهم ، فلما اختل بعض هذه التدبيرات لم ينتصروا .
وذكر بعض أهل السير أن الملائكة قاتلت يوم أحد وهو ما نفاه ابن جرير ، وقد ذكرنا عبارته .بل روي عن ابن عباس أن الملائكة لم تقاتل إلا يوم بدر ، وفيما عداه كانوا عددا ومددا لا يقاتلون .وأنكر أبو بكر الأصم قتال الملائكة وقال:إن الملك الواحد يكفي في إهلاك أهل الأرض كما فعل جبريل بمدائن قوم لوط .فإذا حضر هو يوم بدر فأي حاجة إلى مقاتلة الناس مع الكفار ، وبتقدير حضوره أي فائدة في إرسال سائر الملائكة ؟ وأيضا فإن أكابر الكفار كانوا مشهورين وقاتِلُ كل منهم من الصحابة معلوم ، وأيضا لو قاتلوا فإما أن يكونوا بحيث يراهم الناس أو لا ، وعلى الأول يكون المشاهد من عسكر الرسول ثلاثة آلاف وأكثر ولم يقل أحد بذلك ، وأنه خلاف قوله:{ ويقللكم في أعينهم} [ الأنفال:44] ولو كانوا في غير صورة الناس لزم وقوع الرعب الشديد في قلوب الخلق ولم ينقل ذلك ألبتة ؛ وعلى الثاني كان يلزم جز الرؤوس وتمزق البطون وإسقاط الكفار من غير مشاهدة فاعل ، ومثل هذا يكون من أعظم المعجزات فكان يجب أن يتواتر ويشتهر بين الكافر والمسلم والموافق والمخالف .وأيضا إنهم لو كانوا أجساما كثيفة وجب أن يراهم الكل .وإن كانوا أجساما لطيفة هوائية فكيف ثبتوا على الخيول ، ا ه ذكر ذلك الرازي والنيسابوري .فالرازي أورد هذا عن الأصم وذكر حججه مفصلة كعادته بقوله:الحجة الأولى- الحجة الثانية الخ ؛ ولخصه النيسابوري عنه بما ذكرناه واعترض الرازي عليه بأن مثل هذا إنما يصدر من غير المؤمنين ، وكان يجب أن يرد عليه بما يدفع هذه الحجج أو يبيّن لها مخرجا .
ليس في القرآن الكريم نص قاطع بأن الملائكة قاتلت بالفعل فيحتج به الرازي على أبي بكر الأصم ، وإنما جاء ذكر الملائكة في سياق الكلام عن غزوة بدر في سورة الأنفال على أنها وعد من الله تعالى بإمداد المؤمنين بألف من الملائكة وفسّر هذا الإمداد بقوله عز وجل:{ إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان} [ الأنفال:12] قال ابن جرير في معنى التثبيت:( ج 9 ص 124 )"يقول قووا عزمهم وصححوا نياتهم في قتال عدوهم من المشركين ، وقيل:كان ذلك معونتهم إياهم بقتال أعدائهم "فأنت ترى أنه جزم بأن عمل الملائكة في ذلك اليوم إنما كان موضوعه القلوب بتقوية عزيمتها ، وتصحيح نيتها ، وذكر قول من قال إن ذلك كان بمعونتهم في القتال بصيغة تدل على ضعفه"قيل "وجعل قوله تعالى:{ سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب} الخ من تتمة خطاب الله للمؤمنين وهو الظاهر .وبعض المفسرين يجعله بيانا لما تثبت به الملائكة النفوس أي إنها تلقي فيها اعتقاد إلقاء الرعب في قلوب المشركين الخ .
وبهذا يندفع ما قاله الأصم ولا يبقى محل لحججه فإنه لا ينكر أن الملائكة أرواح يمكن أن يكون لها اتصال ما بأرواح بعض البشر وتأثير فيها بالإلهام أو تقوية العزائم .ويؤيده قوله تعالى:{ وما جعله الله إلا بشرى} كما قال مثل ذلك في هذه السورة .
هذا ما كان يوم بدر ، وسيأتي بسطه في تفسير سورة الأنفال إن أحيانا الله تعالى .وأما يوم أحد فالمحققون على أنه لم يحصل إمداد بالملائكة ولا وعد من الله بذلك .وإنما أخبر الله عن رسوله صلى الله عليه وسلم أنه ذكر ذلك لأصحابه وجعل الوعد به معلقا على ثلاثة أمور:الصبر والتقوى وإتيان الأعداء من فورهم ، ولم تتحقق هذه الشروط فلم يحصل الإمداد كما تقدم .ولكن القول أفاد البشارة والطمأنينة .
وبقي أن يُقال:ما الحكمة وما السبب في إمداد الله المؤمنين يوم بدر بملائكة يثبتون قلوبهم ، وحرمانهم من ذلك يوم أحد حتى أصاب العدو منهم ما أصاب ؟
والجواب عن ذلك يعلم من اختلاف حال المؤمنين في ذينك اليومين ، فنذكره هنا مجملا مع بيان فلسفته الروحانية ، وندع التفصيل فيه إلى تفسير الآيات هنا وفي سورة الأنفال .فإن ما هنا تفصيل لما في وقعة أحد من الحكم وما في سورة الأنفال تفصيل لما كان في وقعة بدر من ذلك .
كان المؤمنون يوم بدر في قلة وذلة من الضعف والحاجة فلم يكن لهم اعتماد إلا على الله تعالى وما وهبهم من قوة في أبدانهم ونفوسهم ، وما أمرهم به من الثبات والذكر إذ قال:{ إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون} [ الأنفال:15] فبذلوا كل قواهم وامتثلوا أمر ربهم ، ولم يكن في نفوسهم استشراف إلى شيء ما غير نصر الله وإقامة دينه والذود عن نبيه لا في أول القتال ولا في أثنائه ، فكانت أرواحهم بهذا الإيمان وهذا الصفاء قد علت وارتقت حتى استعدت لقبول الإلهام من أرواح الملائكة والتقوى بنوع ما من الاتصال بها .
وأما يوم أحد فقد كان بعضهم في أول الأمر على مقربة من الافتتان بما كان من المنافقين ، ولذلك همت طائفتان منهم أن تفشلا .ثم إنهم لما تثبتوا وباشروا القتال انتصروا وهزموا المشركين الذين هم أكثر من ثلثهم ، فكان بعد ذلك أن خرج بعضهم عن التقوى وخالفوا أمر الرسول ، وطمعوا في الغنيمة وفشلوا وتنازعوا في الأمر فضعف استعداد أرواحهم ، فلم ترتق إلى أهلية الاستمداد من أرواح الملائكة فلم يكن لهم منهم مدد ، لأن الإمداد لا يكون إلا على حسب الاستعداد .
هذا هو السبب لما حصل بحسب ما يظهر لنا .وأما حكمته فهي تمحيص المؤمنين كما سيأتي في قوله: "وليمحص الله "الخ وتربيتهم بالفعل على إقامة سنن الله تعالى في الأسباب والمسببات كما سيأتي في قوله:{ قد خلت من قبلكم سنن} [ آل عمران:137] وبيان أن هذه السنن حاكمة حتى على الرسول ، وأن قتل الرسول أو موته لا ينبغي أن يكون مثبطا للهمم ولا داعية إلى الانقلاب على الأعقاب ، وأنه ليس له من أمر العباد شيء ، وأن كل ما يصيبهم من المصائب فهو نتيجة عملهم إذ هو عقوبة طبيعية لهم ، وغير ذلك مما بينه الله تعالى في قوله:{ أو لما أصابتكم مصيبة} [ آل عمران:165] الخ وقوله:{ وما محمد إلا رسول} [ آل عمران:144] الخ وغيرهما ، فلا نتعجله قبل الكلام في تفسير الآيات الناطقة به ، وما هي ببعيد .
ومن نكت البلاغة المؤدية لما ذكرنا من اختلاف الحالين في الواقعتين:أنه تعالى قال هنا:{ ولتطمئن قلوبكم به} وقال في سورة الأنفال:{ ولتطمئن به قلوبكم} [ الأنفال:10] والفرق بينهما أن المؤمنين لم يكن لهم يوم بدر ما تطمئن به قلوبهم غير وعد الله وبشارته لهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولذلك كان من دعائه يومئذ"اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبدا "قال عمر راوي هذا الحديث:فما زال يستغيث ربه ويدعوه حتى سقط رداؤه فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فرداه ثم التزمه من ورائه ، ثم قال:يا نبي الله كفاك مناشدتك لربك فإنه سينجز لك ما وعدك .وأنزل الله يومئذ{ إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم}{[350]} [ الأنفال:9] .رواه أحمد ومسلم وغيرهما .فكان بهذا الوعد اطمئنان قلوبهم لا بسواه فلذلك قدم"به "على"قلوبكم "وأما في يوم أحد فلم تكن الحال كذلك كما علم مما تقدم آنفا ، فلم تعد البشارة أن تكون مما يطمئن به القلب فقال: "ولتطمئن قلوبكم به "من غير قصر .