/م103
{ وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون} هذا عطف على قوله تعالى:{ خذ من أموالهم صدقة} الخ أي وقل لهم أيها الرسول اعملوا لدنياكم وآخرتكم ولأنفسكم وأمتكم"حذف متعلق العمل يدل على العموم ، وقدره بعضهم اعملوا ما شئتم "، فإنما العبرة بالعمل لا بالاعتذار عن التقصير ، ولا بدعوى الجد والتشمير ، وخير الدنيا والآخرة منوطان بالعمل ، وهو لا يخفى على الله ولا على الناس أيضا ، فسيرى الله عملكم خيرا كان أو شرا ، فيجب عليكم أن تراقبوه تعالى في أعمالكم ، وتتذكروا أنه ناظر إليكم ، عليم بمقاصدكم ونياتكم ، لا تخفى عليه منكم خافية ، وجدير بمن يؤمن برؤية الله ليعمله أن يتقنه ، وأن يخلص له النية فيه ، فيقف فيه عند حدود شرعه ، ويتحرى به تزكية نفسه والخير لخلقه ، ولا يكتفي فيه بترك معاصيه واجتناب مناهيه .
راود رجل امرأة عن نفسها في فلاة قائلا:إنه لا يرانا هنا إلا الكواكب ، قالت:فأين مكوكبها ؟ فخجل وانصرف .
وسيراه رسوله والمؤمنون ، ويزيونه بميزان الإيمان ، المميز بين الإخلاص والنفاق ، وهم شهداء الله على الناس ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد وأبو يعلى وابن حبان والبيهقي: "لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة لأخرج الله عمله للناس كائنا ما كان "{[1635]} وقال زهير:
ومهما تكن عند امرئ من خليقة وإن خالها تخفى على الناس تعلم{[1636]}
فإذا كانت الخلائق النفسية والأعمال السرية لا تخفى على الناس مهما يكن من محاولة صاحبها لإخفائها ، فماذا يقال في الأعمال التي هي مقتضى العقائد والأخلاق ، وما انطبعت عليه النفس من الملكات ، ومرنت عليه من العادات ؟ نرى المؤمنين الصادقين يخفون بعض أعمال البر التي يستحب إخفاؤها كالصدقة على الفقير المتعفف سترا عليه ، ومبالغة في الإخلاص لله تعالى الذي ينافيه الرياء وحب السمعة ، ولكنهم لا يلبثون أن يشتهروا بها ، ونرى بعض المنافقين يخفون بعض أعمال النفاق خوفا من الناس لا من الله ، ولكنهم لا يلبثون أن يفتضحوا بها .ومن أمثال العوام:إن الذي يختفي هو الذي لا يقع .
والآية تهدينا إلى أن مرضاة جماعة المؤمنين القائمين بحقوق الإيمان ، المقررة صفاتهم في القرآن ، تلي مرضاة الله ورسوله ، وأنهم لا يجتمعون على ضلالة .وفي معناه حديث أنس في الصحيحين قال:مروا بجنازة فأثنوا عليها خيرا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"وجبت "، ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شرا فقال: "وجبت "، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:ما وجبت ؟ قال: "هذا أثنيتم عليه خيرا فوجبت له الجنة ، وهذا أثنيتم عليه شرا فوجبت له النار ، أنتم شهداء الله في الأرض "{[1637]} ، وفي لفظ مسلم تكرار"وجبت "ثلاث مرات في الموضعين ، وكذا تكرار"أنتم شهداء الله في الأرض ".
وفي معناه حديث ابن عمر مرفوعا:"إن الله لا يجمع أمتيأو قال أمة محمدعلى ضلالة ، ويد الله على الجماعة ، ومن شذ شذ إلى النار "{[1638]} ، أخرجه الترمذي من طريق سليمان المديني ، وقال:هذا حديث غريب من هذا الوجه ، وسليمان المديني عندي هو سليمان بن سفيان اه .أقول:وهو ضعيف منكر الحديث باتفاقهم ، ويعزى الحديث إلى الطبراني بلفظ"لا تجتمع أمتي على ضلالة "، والعلماء يستدلون به على حجية الإجماع لصحة معناه بموافقته للآيات والصحاح من الأخبار ، وإنما يدل على إجماع الأمة ، أمة الإجابة وأهل الاستقامة ، لا على الإجماع المصطلح عليه عند الأصولين .
وفي معناه قول ابن عباس:"ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن "{[1639]} ، رواه عنه أحمد في السنة لا في المسند ، ومن الناس من يظن أنه حديث مرفوع ، ويستدل به الجهال حتى من المعممين أدعياء العلم على استحسان البدع الفاشية حتى في العقائد الثابتة ، كبدع القبور التي كان يلعن النبي صلى الله عليه وسلم فاعليها في مرض موته ، من بناء المساجد عليها ، والصلاة إليها ، وإيقاد السرج والمصابيح عندها ، بل ما هو شر من ذلك وهو عبادتها بالطواف حولها ، ودعاء أصحابها ، والنذر لهم ، والاستغاثة بهم ، حتى في الشدائد ، وهو ما لم يكن يفعله عباد الأصنام في مثل هذه الحال ، بل كانوا فيه يخلصون الدعاء لله ، فلا حول ولا قوة إلا بالله .
بعد هذا الإرشاد إلى ما يقتضي الإحسان في الأعمال من مراقبة الله وتحري مرضاته ومرضاة رسوله وجماعة المؤمنين والخير لعباده بها ، ذكرهم تعالى بما يقتضي ذلك من جزاء الآخرة عليها ، فقال:{ وستردون إلى عالم الغيب والشهادة} بالبعث بعد الموت .
{ فينبئكم بما كنتم تعملون} في الدنيا مما كان مشهودا للناس منه ، وما كان غائبا عن علمهم منه ومن نياتكم فيه ، ينبئكم به عند الحساب ، وما يترتب عليه من الجزاء بحسن الثواب ، أو سوء العذاب .