وتوكّد الآية التي تليها البحوث التي مَرَّت بصورة جديدة ،وتأمر النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن يبلغ الناس: ( وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُوُلُهُ وَالمُؤْمِنُونَ ) فهي تشير إِلى أن لا يتصور أحد أنّه إِذا عمل عملا ،سواء في خلوته أو بين الناس فإنّه سيخفى على علم الله سبحانه ،بل إِنَّ الرّسول( صلى الله عليه وآله وسلم ) والمؤمنين يعلمون به إِضافةً إِلى علم الله عزَّ وجلّ .
إِنَّ الالتفات إِلى هذه الحقيقة والإِيمان بها له أعمق الأثر في تطهير الأعمال والنيات ،فإنّ الإِنسانعادةإِذا أحسّ بأنّ أحداً ما يراقبه ويتابع حركاته وسكناته ،فإنَّه يحاول أن يتصرّف تصرفاً لا نقص فيه حتى لا يؤاخذه عليه من يراقبه ،فكيف إِذا أحسّ وآمن بأنَّ الله ورسوله والمؤمنين يطلعون على أعماله ؟!
إِنَّ هذا الإِطلاع هو مقدمة للثواب أو العقاب الذي ينتظره في العالم الآخر ،لذا فإِنَّ الآية الكريمة تعقب على ذلك مباشرة وتقول: ( وَسَتُرَدُّونَ إِلى عَالَمِ الغَيبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنُبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .
ملاحظات
1مسألة عرض الأعمال
إِنّ بين أتباع مذهب أهل البيت( عليهم السلام ) ،ونتيجة للأخبار الكثيرة الواردة عن الأئمّة( عليهم السلام ) ،عقيدة معروفة ومشهورة ،وهي أنّ النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) والأئمّة( عليهم السلام ) يطلعون على أعمال كل الأُمّة ،أي أنّ الله تعالى يعرض أعمالها بطرق خاصّة عليهم .
إنّ الرّوايات الواردة في هذا الباب كثيرة جدّاً ،وربّما بلغت حدّ التواتر ،وننقل هنا أقساماً منها كنماذج:
روي عن الإِمام الصادق( عليه السلام ) أنّه قال: «تعرض الأعمال على رسول الله أعمال العباد كل صباح ،أبرارها وفجارها ،فاحذروها ،وهو قول الله عزَّ وجلّ: ( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله )وسكت{[1679]} .
وفي حديث آخر عن الإِمام الباقر( عليه السلام ): «إِنّ الأعمال تعرض على نبيّكم كل عشية الخميس ،فليستح أحدكم أن يعرض على نبيّه العمل القبيح »{[1680]} .
وفي رواية أُخرى عن الإِمام علي بن موسى الرضا( عليه السلام ) ،أنّ شخصاً قال له: ادع الله لي ولأهل بيتي ،فقال: «أولست أفعل ؟والله أنّ أعمالكم لتعرض عليَّ في كل يوم وليلة » .يقول الراوي ،فاستعظمت ذلك ،فقال لي ،«أمّا تقرأ كتاب الله عز وجل: ( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ) ،هو والله علي بن أبي طالب »{[1681]} .
إِنّ بعض هذه الأخبار ورد فيها ذكر النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقط ،وفي بعضها علي( عليه السلام ) ،وفي بعضها الآخر ذكر النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) والأئمّة( عليهم السلام ) ،كما أنّ بعضها قد خص وقت عرض الأعمال بعصر الخميس ،وبعضها جعله كل يوم ،وبعضها في الأسبوع مرّتين ،وبعضها في أوّل كل شهر ،وبعضها عند الموت والوضع في القبر .
ومن الواضح أنّ لا منافاة بين هذه الرّوايات ،ويمكن أن تكون كلّها صحيحة ،تماماً كما هو الحال في دستور عمل المؤسسات الخيرية ،فالمحصلة اليومية تعرض في نهاية كل يوم ،والأسبوعية منها في نهاية كل أسبوع ،والشهرية أو السنوية في نهاية الشهر أو السنة على المسؤولين في المراتب العليا .
وهنا يطرح سؤال ،وهو: هل يمكن استفادة هذا الموضوع من نفس الآية مع غضّ النظر عن الرّوايات التي وردت في تفسيرها ؟أم أنّ الأمر كما قاله مفسّرو العامّة ،وهو أنّ الآية تشير إِلى أمر طبيعي ،وهو أنّ الإِنسان إِذا عمل أي عمل ،فإنّه سيظهر ،شاء أم أبي ،ومضافاً إِلى علم الله سبحانه ،فإنّ النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) والمؤمنين سيطلعون على ذلك العمل بالطرق الطبيعة ؟
وفي الجواب عن هذا السؤال يجب أن يقال: الحق أنّ لدنيا شواهد على هذا الموضوع من نفس الآية ،وذلك:
أوّلا: إِنّ الآية مطلقة ،وهي تشمل جميع الأعمال ،فإنّا نعلم أن جميع الأعمال لا يمكن أن تتّضح للنّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) والمؤمنين بالطرق العادية الطبيعية ،لأنّ أكثر المعاصي ترتكب في السر ،وتبقى مستترة عن الأنظار والعلم غالباً ،بل إنّ الكثير من أعمال الخير أيضاً تُعمل في السرّ ،ويلفها الكتمان .ودعوى أن كل الأعمال ،الصالحة منها والطالحة ،أو أغلبها تتّضح للجميع واضحة والبطلان وبعيدة كل البعد عن المنطق والحكمة .وعلى هذا فإنّ علم النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) والمؤمنين بأعمال الناس يجب أن يكون عن طريق غير طبيعي ،بل عن طريق التعليم الإِلهي .
ثانياً: إِنّ آخر الآية يقول: ( فينبئكم بما كنتم تعملون ) ولا شك أنّ هذه الجملة تشمل كل أعمال البشرالعلنية منها والمخفيةوظاهر تعبير الآية أنّ المقصود من العمل الوارد في أولها وآخرها واحد ،وعلى هذا فإن أول الآية يشمل أيضاً كل الأعمالالظاهرة منها والباطنةولا شك أنّ الوقوف عليها كاملا لا يمكن بالطرق المعروفة الطبيعية .
وبتعبير آخر ،فإنّ نهاية الآية تتحدث عن جزاء جميع الأعمال ،وكذلك تبحث بداية الآية علم الله ورسوله والمؤمنين بكل الأعمال ،فهنا مرحلتان: إِحداهما: مرحلة الإِطلاع والعلم ،والأُخرى: مرحلة الجزاء ،والموضوع واحد في المرحلتين .
ثالثاً: إِنّ ضميمة المؤمنين في الآية إِلى الله ورسوله يصح في صورة يكون المقصود فيها كل الأعمال وبطرق غير الطبيعية ،وإِلاّ فإنّ الأعمال العلنية يراها المؤمنون وغير المؤمنين على السواء ،ومن هنا تتّضح مسألة أُخرى بصورة ضمنية ،وهي أنّ المقصود من المؤمنين في الآيةكما ورد في الرّوايات الكثيرة أيضاًليس جميع المؤمنين ،بل فئة خاصّة منهم ،وهم الذين يطلعون على الأسرار الغيبية بإذن الله تعالى ،ونعني بهم خلفاء النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) الحقيقيين .
والمسألة الأُخرى التي يجب الانتباه لها هنا ،وهيكما أشرنا سابقاًأنّ مسألة عرض الأعمال لها أثر عظيم على المعتقدين بها ،فإنّي إِذا علمت أنّ الله الموجود في كل مكان معي ،وبالإِضافة إِلى ذلك فإنّ نبيي( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأئمّتي( عليهم السلام )يطلعون على كل أعمالي ،الحسنة والسيئة في يوم كل يوم ،أو في كل أسبوع ،فلا شك أنّي سأكون أكثر مراقبة ورعاية لما يبدر منّي من أعمال ،وأحاول تجنب السيئة منها ما أمكن ،تماماً كما لو علم العاملون في مؤسسة ما بأنّ تقريراً يومياً أو أسبوعياً ،تسجل فيه جزئيات أعمالهم ،يُرفع إِلى المسؤولين ليطلعوا على دقائق أعمالهم .
2هل الرّؤية هنا تعني النظر ؟
المعروف بين جمع من المفسّرين أنّ الرؤية الواردة في قوله تعالى: ( فسيرى الله عملكم ...) تعني المعرفة ،لا العلم ،لأنّها لم تأخذ أكثر من مفعول واحد ولو كانت الرؤية بمعنى العلم لأخذت مفعولين .
لكن لا مانع أن تكون الرؤية بمعناها الأصلي ،وهو مشاهدة المحسوسات ،لا بمعنى العلم ،ولا بمعنى المعرفة ،فإنّ هذا الموضوع بالنسبة إِلى الله سبحانه وتعالى الموجود في كل مكان ،والمحيط بكل المحسوسات لا مناقشة فيه .
وأمّا بالنسبة للنّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) والأئمّة( عليهم السلام ) ،فلا مانع من ذلك أيضاً ،حيث أنّهم يرون نفس الأعمال عند عرضها ،لأنّا نعلم أنّ أعمال الإِنسان لا تفنى ،بل تبقى إِلى يوم القيامة .
3لا شك أنّ الله عز وجل يعلم بالأعمال قبل وقوعها ،والذي في جملة: ( فسيرى الله ) إِشارة إِلى تلك الأعمال بعد تحققها في عالم الوجود .