سبب النّزول
قال جماعة من المفسّرين: إِنّ هذه الآية نزلت في ثلاثة من المتخلفين عن غزوة تبوك ،وهم: «هلال بن أُمية » و«مرارة بن ربيع » و«كعب بن مالك » ،وسيأتي بيان ندمهم على ذلك وكيفية توبتهم في ذيل الآية ( 118 ) من هذه السورة ،إن شاء الله تعالى .
ويستفاد من بعض الرّوايات الأُخرى أنّ هذه الآية نزلت في بعض الكفار الذين قتلوا الشخصيات الإِسلامية الكبرىكحمزة سيد الشهداءفي ساحات الحروب ،ثمّ اهتدوا ودخلوا في دين الإِسلام .
التّفسير
في هذه الآية إِشارة إِلى مجموعة من المذنبين الذين لم تتّضح جيداً عاقبة أمرهم ،فلا هم مستحقون حتماً للرحمة الإِلهية ،ولا من المغضوب عليهم حتماً ،لذا فإنّ القرآن الكريم يقول في حقّهم: ( وآخرون مرجون لأمر الله إمّا يعذبهم أو يتوب عليهم ) .
«مرجون » مأخوذ من مادة ( إِرجاء ) بمعنى التأخير والتوقيف ،وفي الأصل أخذت من ( رجاء ) بمعنى الأمل ،ولما كان الإنسان قد يؤخر شيئاً ما أحياناً رجاء تحقق هدف من هذا التأخير ،فإنّ هذه الكلمة قد جاءت بمعنى التأخير ،إلاّ أنّه تأخير ممزوج بنوع من الأمل .
إِنّ هؤلاء في الحقيقة ليس لهم من الإِيمان الخالص والعمل الصالح بحيث يمكن عدهم من أهل السعادة والنجاة ،وليسوا ملوّثين بالمعاصي ومنحرفين عن الجادة بحيث يُكتبون من الأشقياء ،بل يوكل أمرهم إِلى اللطف الإِلهي كيف سيعامل هؤلاء ،وهذا طبعاً حسب أوضاعهم الروحية ومواقعهم .
وتضيف الآيةبعد ذلكأنّ الله سبحانه سوف لا يحكم على هؤلاء بدون حساب ،بل يقتضي بعلمه وحكمته: ( والله عليم حكيم ) .
سؤال:
وهنا يطرح سؤال مهم قلمّا بحثه المفسّرون بصورة وافية ،وهو ما الفرق بين هذه الفئة ،والفئة التي مرّ بيان حالتها في الآية ( 102 ) من هذه السورة ؟فإنّ كلا الجماعتين كانوا من المذنبين ،وكلا المجموعتين تابوا ،لأنّ المجموعة الأُولى اعترفوا بذنوبهم ،وأظهروا الندم عليها ،والمجموعة الثّانية تستفاد توبتهم من قوله تعالى: ( وإمّا يتوب عليهم ) .وكذلك فإنّ كلا الفئتين ينتظر أفرادها الرحمة الإِلهية ويعيشون حالة الخوف والرجاء .
وللجواب على هذا السؤال نقول: إِنّه يمكن التفرقة بين هاتين الطائفتين عن طريقين:
1إِنّ الطائفة الأُولى تابوا بسرعة ،وأظهروا ندمهم بصورة واضحة ،فمثلا نرى أبا لبابة قد أوثق نفسه بعمود المسجد ،وبعبارة موجزة: إنّ هؤلاء أعلنوا ندمهم صريحاً ،وأظهروا استعدادهم لتحمل الكفارة البدنية والمالية مهما كانت .
أمّا أفراد الطائفة الثّانية فإنّهم لم يظهروا ندمهم في البداية ،ولو أنّهم ندموا في أنفسهم ووجدانهم ،ولم يُظهروا استعدادهم لتحمل ما يترتب على ذنبهم ومعصيتهم ،فهم في الواقع كانوا يطمحون إِلى العفو عن ذنوبهم الكبيرة بكل بساطة ويسر .
إنّ هؤلاءومثالهم الواضح هو الثلاثة الذين أُشير إِليهم ،وسيأتي بيانوضعهمبقوا في حالة الخوف والرجاء ،ولهذا نرى أنّ النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) أمر الناس أن يقاطعوهم ويبتعدوا عنهم ،وبهذا فقد عاشوا محاصرة اجتماعية شديدة اضطروا نتيجتها أن يسلكوا في النهاية نفس الطريق الذي سلكه أتباع الفريق الأوّل ،ولما كان قبول توبة هؤلاء في ذلك الوقت يظهر بنزول آية ،فقد بقي النّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) في انتظار الوحي ،حتى قبلت توبتهم بعد خمسين يوماً أو أقل .
ولهذا فإنّا نرى الآية نزلت في حق الطائفة الأُولى قد ختمت بقوله: ( إِن الله غفور رحيم ) وهو دليل على قبول توبتهم ،أمّا الطائفة الثّانية فما داموا لم يغيروا مسيرهم فقد جاءت جملة: ( والله عليم حكيم ) التي لا تدل من قريب أو بعيد على قبول توبتهم .
ولا مجال للتعجب من أنّ الندم لوحده لم يكن كافياً لقبول التوبة من المعاصي الكبيرة ،خاصّة في عصر نزول الآيات ،بل يشترط مع ذلك الإِقدام على الاعتراف الصريح بالذنب ،والاستعداد لتحمل كفارته وعقوبته ،وبعد ذلك نزول الآية التي تبشر بقبول التوبة .
2الفرق الثّاني بين هاتين الطائفتين ،هو أنّ الطائفة الأُولى بالرغم من أنّهم عصوا بتخلفهم عن أداء واجب إسلامي كبير ،أو لتسريبهم بعض الأسرار العسكرية إِلى الأعداء ،إلاّ أنّهم لم يرتكبوا الكبائر العظيمة كقتل حمزة سيد الشهداء ،ولهذا فإنّهم بمجرّد أن تابوا واستعدوا للجزاء قبل الله توبتهم .غير أن قتل حمزة وأمثاله لم يكن بالشيء الذي يمكن جبرانه ،ولهذا فإنّ نجاة هذا الفريق مرتبطة بأمر الله وإِرادته ،إِمّا يعفو عنهم أو يعاقبهم .
وعلى أي حال ،فإنّ الجواب الأوّل يناسب تلك المجموعة من الرّوايات الواردة في سبب النزول ،والتي تربط الآية بالثلاثة المتخلفين عن غزوة تبوك ،أمّا الجواب الثّاني فإنّه يوافق الرّوايات العديدة الواردة من طرق أئمّة أهل البيت( عليهم السلام ) ،والتي تقول إنّ هذه الآية تشير إِلى قاتلي حمزة وجعفر وأمثالهما{[1682]} .
ولو دققنا النظر حقاً لرأينا أن لا منافاة بين الجوابين ،ويمكن أن يكون كل منهما مقصوداً في تفسير الآية .