وقال:( ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له ) أي:لعظمته [ وجلاله] وكبريائه لا يجترئ أحد أن يشفع عنده تعالى في شيء إلا بعد إذنه له في الشفاعة ، كما قال تعالى:( من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ) [ البقرة:255] ، وقال:( وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء [ ويرضى] ) [ النجم:26] ، وقال:( ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ) [ الأنبياء:28] .
ولهذا ثبت في الصحيحين ، من غير وجه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو سيد ولد آدم ، وأكبر شفيع عند الله -:أنه حين يقوم المقام المحمود ليشفع في الخلق كلهم أن يأتي ربهم لفصل القضاء ، قال:"فأسجد لله فيدعني ما شاء الله أن يدعني ، ويفتح علي بمحامد لا أحصيها الآن ، ثم يقال:يا محمد ، ارفع رأسك ، وقل يسمع ، وسل تعطه واشفع تشفع "الحديث بتمامه .
وقوله:( حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق ) . وهذا أيضا مقام رفيع في العظمة . وهو أنه تعالى إذا تكلم بالوحي ، سمع أهل السماوات كلامه ، أرعدوا من الهيبة حتى يلحقهم مثل الغشي . قاله ابن مسعود ومسروق ، وغيرهما .
( حتى إذا فزع عن قلوبهم ) أي:زال الفزع عنها . قال ابن عباس ، وابن عمر وأبو عبد الرحمن السلمي والشعبي ، وإبراهيم النخعي ، والضحاك والحسن ، وقتادة في قوله تعالى:( حتى إذا فزع عن قلوبهم ) يقول:جلي عن قلوبهم ، وقرأ بعض السلف - وجاء مرفوعا -:"[ حتى] إذا فرغ "بالغين المعجمة ، ويرجع إلى الأول .
فإذا كان كذلك يسأل بعضهم بعضا:ماذا قال ربكم ؟ فيخبر بذلك حملة العرش للذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم لمن تحتهم ، حتى ينتهي الخبر إلى أهل السماء الدنيا; ولهذا قال:( قالوا الحق ) أي:أخبروا بما قال من غير زيادة ولا نقصان ، ( وهو العلي الكبير ) .
وقال آخرون:بل معنى قوله:( حتى إذا فزع عن قلوبهم ) يعني:المشركين عند الاحتضار ، ويوم القيامة إذا استيقظوا مما كانوا فيه من الغفلة في الدنيا ، ورجعت إليهم عقولهم يوم القيامة ، قالوا:ماذا قال ربكم ؟ فقيل لهم:الحق وأخبروا به مما كانوا عنه لاهين في الدنيا .
قال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد:( حتى إذا فزع عن قلوبهم ):كشف عنها الغطاء يوم القيامة .
وقال الحسن:( حتى إذا فزع عن قلوبهم ) يعني:ما فيها من الشك والتكذيب . وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم:( حتى إذا فزع عن قلوبهم ) يعني:ما فيها من الشك ، قال:فزع الشيطان عن قلوبهم وفارقهم وأمانيهم وما كان يضلهم ، ( قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير ) قال:وهذا في بني آدم ، هذا عند الموت ، أقروا حين لا ينفعهم الإقرار .
وقد اختار ابن جرير القول الأول:أن الضمير عائد على الملائكة . هذا هو الحق الذي لا مرية فيه ، لصحة الأحاديث فيه والآثار ، ولنذكر منها طرفا يدل على غيره:
قال البخاري عند تفسير هذه الآية الكريمة في صحيحه:حدثنا الحميدي ، حدثنا سفيان ، حدثنا عمرو ، سمعت عكرمة ، سمعت أبا هريرة يقول:إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال:"إذا قضى الله الأمر في السماء ، ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله ، كأنه سلسلة على صفوان ، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا:ماذا قال ربكم ؟ قالوا للذي قال:الحق ، وهو العلي الكبير فيسمعها مسترق السمع ، ومسترق السمع - هكذا بعضه فوق بعض - ووصف سفيان بيده - فحرفها وبدد بين أصابعه - فيسمع الكلمة ، فيلقيها إلى من تحته ، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته ، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن ، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها ، وربما ألقاها قبل أن يدركه ، فيكذب معها مائة كذبة ، فيقال:أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا:كذا وكذا ؟ فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء .
انفرد بإخراجه البخاري دون مسلم من هذا الوجه . وقد رواه أبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه ، من حديث سفيان بن عيينة ، به .
حديث آخر:قال الإمام أحمد:حدثنا محمد بن جعفر وعبد الرزاق:أخبرنا معمر ، أخبرنا الزهري ، عن علي بن الحسين ، عن ابن عباس قال:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم [ جالسا] في نفر من أصحابه - قال عبد الرزاق:"من الأنصار "- فرمي بنجم فاستنار ، [ قال]:"ما كنتم تقولون إذا كان مثل هذا في الجاهلية ؟ "قالوا:كنا نقول يولد عظيم ، أو يموت عظيم - قلت للزهري:أكان يرمى بها في الجاهلية ؟ قال:نعم ، ولكن غلظت حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم - قال:فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فإنها لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته ، ولكن ربنا ، تبارك وتعالى ، إذا قضى أمرا سبح حملة العرش [ ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم ، حتى يبلغ التسبيح هذه الدنيا ، ثم يستخبر أهل السماء الذين يلون حملة العرش ، فيقول الذين يلون حملة العرش لحملة العرش]:ماذا قال ربكم ؟ فيخبرونهم ، ويخبر أهل كل سماء سماء; حتى ينتهي الخبر إلى هذه السماء ، وتخطف الجن السمع فيرمون ، فما جاءوا به على وجهه فهو حق ، ولكنهم يفرقون فيه ويزيدون .
هكذا رواه الإمام أحمد . وقد أخرجه مسلم في صحيحه ، من حديث صالح بن كيسان ، والأوزاعي ، ويونس ومعقل بن عبيد الله ، أربعتهم عن الزهري ، عن علي بن الحسين ، عن ابن عباس عن رجل من الأنصار ، به . ورواه وقال يونس:عن رجال من الأنصار ، وكذا رواه النسائي في "التفسير "من حديث الزبيدي ، عن الزهري ، به . ورواه الترمذي فيه عن الحسين بن حريث; عن الوليد بن مسلم ، عن الأوزاعي ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس ، عن رجل من الأنصار ، رضي الله عنه ، والله أعلم .
حديث آخر:قال ابن أبي حاتم:حدثنا محمد بن عوف وأحمد بن منصور بن سيار الرمادي - والسياق لمحمد بن عوف - قالا حدثنا نعيم بن حماد ، حدثنا الوليد - هو ابن مسلم - عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، عن عبد الله بن أبي زكرياء ، عن رجاء بن حيوة ، عن النواس بن سمعان قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إذا أراد الله أن يوحي بأمره تكلم بالوحي ، فإذا تكلم أخذت السماوات منه رجفة - أو قال:رعدة - شديدة; من خوف الله ، فإذا سمع بذلك أهل السماوات صعقوا وخروا لله سجدا ، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل فيكلمه الله من وحيه بما أراد ، فيمضي به جبريل على الملائكة ، كلما مر بسماء سماء سأله ملائكتها:ماذا قال ربنا يا جبريل ؟ فيقول:قال:الحق ، وهو العلي الكبير . فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل ، فينتهي جبريل بالوحي حيث أمره الله من السماء والأرض ".
وكذا رواه ابن جرير وابن خزيمة ، عن زكريا بن أبان المصري ، عن نعيم بن حماد ، به .
قال ابن أبي حاتم:سمعت أبي يقول:ليس هذا الحديث بالشام عن الوليد بن مسلم ، رحمه الله .
وقد روى ابن أبي حاتم من حديث العوفي ، عن ابن عباس - وعن قتادة:أنهما فسرا هذه الآية بابتداء إيحاء الله سبحانه إلى محمد صلى الله عليه وسلم بعد الفترة التي كانت بينه وبين عيسى ، ولا شك أن هذا أولى ما دخل في هذه الآية .